الأربعاء، 4 أبريل 2018

المسؤولية عن إفشاء السر المهني البنكي


يقوم البنك بنشاط هام في الحياة الاقتصادية المعاصرة، باعتباره الممول الأساسي للأنشطة الاقتصادية، وملجأ المستثمرين الباحثين عن الاستفادة من خبراته وخدماته الواسعة، سواء كأفراد ذاتيين أم كشركات.

والبنك إذ يضطلع بهذه المهام الأساسية، يعتمد على مجموعة من المبادئ الثابتة التي كرستها المعاملات، والأعراف البنكية منذ زمن طويل، حتى تحولت إلى قواعد قانونية راسخة في التعاملات البنكية.

ويأتي مبدأ الالتزام بالسر المهني البنكي للزبون في مصاف هذه المبادئ، حيث يلتزم البنك بمقتضاه بعدم إفشاء الأسرار البنكية التي أودعها لديه زبناؤه، أو اطلع عليها بمناسبة ممارسته لمهامه، وكل إخلال بهذا الالتزام يعرض البنك للمسؤولية.

هذه المسؤولية التي تطورت مع تطور هذا المبدأ، وانتشاره بين دول العالم، حيث ثم تجريم إفشاء المعلومات الائتمانية التي أودعها الزبون لدى البنك، ليس فقط حماية لمصالحه المالية والأدبية، ولكن أيضا لحماية الثقة في البنوك، كمؤسسات مالية واقتصادية تباشر مهنة هامة اجتماعيا واقتصاديا، فضلا عن حماية المصلحة العامة في تدعيم الائتمان وتوفير المناخ المناسب للاستثمار والاستقرار الاقتصادي.

وتنبني هذه الحماية على مسؤولية مزدوجة: إما على نصوص خاصة في الدول التي تعتمد قوانين خاصة بالسرية البنكية، وإما على نصوص جنائية عامة تتعلق بأسرار المهنة بشكل عام.

كما يحفظ للزبون المتضرر حق اللجوء إلى الدعوى المدنية، للمطالبة بتعويض الضرر الذي لحقه من جراء ما قام به البنك من إفشاء لأسراره في إطار المسؤولية المدنية.

وتندرج المسؤولية عن إفشاء السر المهني البنكي في التشريع المغربي، في إطار المادة 79 من القانون المتعلق بمؤسسات الائتمان والهيئات المعتبرة في حكمها، الصادر في 14 فبراير 2006، التي ألزمت مجموعة من الأشخاص بكتمان السر المهني الذي اطلعت عليه بمناسبة ممارسة مهامها، وإخلالها بهذا الالتزام يعرضها للمسؤولية الجنائية المنصوص عليها في الفصل 446 من مجموعة القانون الجنائي.

ويتحدد الإطار العام للمسؤولية عن إفشاء السر المهني البنكي حسب ما تقضي به المادة 79 من القانون البنكي الجديد، في أشخاص هذا الالتزام، وكذلك من حيث مضمونه.

كما يتسع نطاق هذه المسؤولية من حيث الأشخاص ليشمل إضافة إلى البنك أو ممثليه، كل شخص يكون له حق المراقبة أو الاطلاع على المعلومات البنكية. وكل إخلال بهذه المعلومات يعطي للزبون أو من يقوم مقامه، حق المساءلة باعتباره طرفا دائنا في هذا الالتزام.

لكن المادة 80 من القانون البنكي الجديد، حددت بعض الجهات التي لا يمكن مواجهتها بالسر المهني البنكي، والتي تتمثل في بنك المغرب، والسلطة القضائية العاملة في إطار مسطرة جنائية، إضافة إلى جهات أخرى منصوص عليها في باقي فروع القانون (إدارة الضرائب مثلا). ففي ظل هذه الحالات يعفى البنك من المسؤولية عن إفشاء السر المهني. الشيء الذي يخفف من صلابة هذه المسؤولية، ويبرز غنى هذا الموضوع وتشعبه.

إضافة إلى حالات الإعفاء المنصوص عليها قانونا، يعفى البنك من هذه المسؤولية بموجب الاتفاق، كأن يتنازل الزبون عن حقه في الالتزام بالسر المهني البنكي.

غير أن المسؤولية عن السر المهني البنكي، تواجهها مجموعة من الإكراهات في السنوات الأخيرة، خاصة مع انخراط البنوك في محاربة عمليات غسل الأموال وطنيا ودوليا، حيث أصبح البنك يواجه مسؤولية مزدوجة تتمثل؛ في عدم الإخلال بالسر المهني البنكي لزبنائه من جهة، والتزامه بمحاربة عمليات غسل الأموال من جهة ثانية، التي غالبا ما تتطلب كشف تلك السرية. كما ازدادت هذه المسؤولية تعقيدا مع تطور وسائل التكنولوجيا الحديثة، التي توظفها البنوك والقائمة على أداء الخدمات البنكية الإلكترونية، فيما أصبح يعرف بنظام البنوك الإلكترونية، التي لا تسلم من الاختراقات مهما تطور نظام الحماية.

  في ظل هذه الأوضاع السابقة:

هل ستبقى المسؤولية عن إفشاء السر المهني البنكي محافظة على كيانها، أم أنها ستختفي تدريجيا مع اختفاء السر المهني البنكي نفسه؟ خصوصا مع اتساع حالات الإعفاء من هذه المسؤولية، وازدياد أهمية دور الأبناك في مكافحة عمليات غسل الأموال؟.

لمعالجة هذه الإشكالية سنعتمد التصميم التالي:



 -الفصل الأول: الإطار العام للمسؤولية عن إفشاء السر المهني البنكي.

      -الفصل الثاني: الجزاءات الناتجة عن إفشاء السر المهني البنكي.

















الفصل الأول:

 الإطار العام للمسؤولية عن إفشاء السر المهني البنكي

يتفرع الإطار العام للمسؤولية عن إفشاء السر المهني البنكي، إلى نطاق هذه المسؤولية من حيث الأشخاص الملزمين بكتمان السر المهني البنكي الذي اطلعوا عليه بمناسبة وظيفتهم.

 وهذا الالتزام يخص جميع المعلومات والعمليات البنكية المتعلقة بالزبناء، وكل إخلال بهذا الالتزام يوقعهم تحت طائلة العقوبات المنصوص عليها في القانون الجنائي (الفرع الأول)، ما لم يكن الأمر يتعلق بحالة من حالات الإعفاء من المسؤولية، سواء بنصوص قانونية صريحة، كما في المادة 80 من القانون المتعلق بمؤسسات الائتمان والهيئات المعتبرة في حكمها، أم بموجب الإعفاء الذي يمنحه الزبون صاحب الحق في السر برضاه، لكن مع ذلك تواجه هذه المسؤولية بعض الصعوبات الخطيرة (الفرع الثاني).

الفرع الأول: نطاق المسؤولية عن إفشاء السر المهني البنكي.

يشمل نطاق هذه المسؤولية كل الأشخاص الملتزمين بالمحافظة على أسرار الزبناء (المبحث الأول)، كما يتحدد نطاقها في مضمون هذا السر ومدته، وكل شيء يخرج عن هذا النطاق لا يعتبر التزاما موجبا للمسؤولية (المبحث الثاني).

المبحث الأول: من حيث الأشخاص الملتزمين بالسر المهني البنكي.

يتحدد نطاق السر من حيث الأشخاص في أطراف هذا الالتزام، باعتباره كباقي الالتزامات الأخرى يتكون من طرفين؛ طرف مدين يتمثل في البنك، وكل شخص  له حق الاطلاع والمراقبة( المطلب الأول)، وطرف دائن  يتمثل في الزبون

( المطلب الثاني).

المطلب الأول: البنك ومن له حق الاطلاع و المراقبة.

يلتزم البنك بعدم إفشاء أسرار الزبون، وفي حالة إخلاله بهذا الالتزام، يقع تحت طائلة المسؤولية سواء الجنائية أم المدنية أم التأديبية، إما بالنسبة إليه كمؤسسة أو بالنسبة لموظفيه كأشخاص ذاتيين إذا كان لذلك أساس.

وتتأسس هذه المسؤولية على الماة 79 من القانون المتعلق بمؤسسات الائتمان والهيئات المعتبرة في حكمها[1]، التي تلزم جميع الأشخاص الذين يشاركون بأي وجه من الوجوه، في إدارة مؤسسة ائتمان أو تسييرها أو تدبيرها أو يكونون مستخدمين لديها، وأعضاء المجلس الوطني للائتمان والادخار، ولجنة مؤسسات الائتمان، واللجنة التأديبية لمؤسسات الائتمان، ولجنة التنسيق بين أجهزة الرقابة بالقطاع المالي، والأشخاص المكلفون ولو بصفة استثنائية بأعمال تتعلق بمراقبة المؤسسات الخاضعة لرقابة بنك المغرب عملا بهذا القانون، وبوجه عام كل شخص يدعى بأي وجه من الوجوه، للاطلاع على المعلومات المتعلقة بالمؤسسات المذكورة أو لاستغلالها وذلك فيما يتعلق بجميع القضايا التي ينظرون فيها بأي صفة كانت. كل هؤلاء الأشخاص يلتزمون بكتمان السر المهني البنكي تحت طائلة المسؤولية. وعليه فنطاق هذه المسؤولية يشمل مجموعة من الأشخاص إضافة إلى البنك(الفقرة الثانية).

لكن قبل التطرق لمسؤوليات هؤلاء الأشخاص، سنتطرق أولا إلى البنك كمؤسسة مركزين على تعريفه القانوني وشروط ممارسته للمهنة البنكية ليدخل في مناط المسؤولية(الفقرة الاولى).

الفقرة الأولى: البنك.

عرف المشرع المغربي البنك في المادة 1 من القانون المتعلق بمؤسسات الائتمان والهيئات المعتبرة في حكمها، بأنه "تعتبر مؤسسات للائتمان الأشخاص المعنوية التي تزاول نشاطا في المغرب، أيا كان موقع مقرها الاجتماعي أو جنسية المشاركين في رأس مالها أو مخصصاتها أو جنسية مسيريها، والتي تحترف بصفة اعتيادية[2] نشاطا واحدا أو أكثر من الأنشطة التالية:

–       تلقي الأموال من الجمهور.

–       عمليات الائتمان.

–       وضع جميع وسائل الأداء رهن تصرف العملاء أو القيام بإدارتها".

ويتضح من خلال هذه المادة حسب بعض الباحثين أن؛المشرع في تعريفه لمؤسسات الائتمان، ظل مخلصا للنظرية الموضوعية التي يعتنقها في القانون التجاري والتي تجعل من العمل التجاري مناطا لتعريف التاجر، فمزاولة العمليات الواردة في القانون المتعلق بمؤسسات الائتمان والهيئات المعتبرة في حكمها، هي التي تسبغ على المؤسسة صفة "مؤسسة الائتمان"[3].

كما أن المادة 12 من القانون المتعلق بمؤسسات الائتمان تمنع على كل شخص غير معتمد باعتباره مؤسسة ائتمان أن يحترف، بصفة اعتيادية القيام بالعمليات المشار إليها في المادة 1 أعلاه، غير أن هذه المادة، بينت بعض العمليات التي يمكن ممارستها من قبل المؤسسات غير البنكية، والتي لا تنطبق  عليها صفة مؤسسة الائتمان حسب المدلول السابق. ورتبت على مخالفة هذه المقتضيات العقوبة المنصوص عليها في المادة 136 من  القانون البنكي لسنة 2006.

يتضح مما سبق، أنه لا يسمح لأي شخص سواء كان طبيعيا، أو اعتباريا ممارسة نشاط الائتمان، إلا إذا جاء في شكل شركة مساهمة ذات رأس مال ثابت، باستثناء المؤسسات التي حدد لها القانون نظاما أساسيا خاصا حسب ما هو مكرس في المادة 28 من القانون المتعلق بمؤسسات الائتمان والهيئات المعتبرة في حكمها. و كل مخالفة لهذه المقتضيات تنتج عليها عقوبات جنائية ومالية.

وبالإضافة إلى الأنشطة الأصلية التي نص عليها المشرع المغربي في المادة1 من القانون المتعلق بمؤسسات الائتمان المشار إليه، أضاف أنشطة فرعية في المادة 9 من نفس القانون، مواكبة للتطورات الحاصلة في الأسواق المالية الدولية[4]. أما بالنسبة لفروع مؤسسات الائتمان المغربية في البلدان الأخرى فتخضع لقوانين هذه البلدان فيما يخص نطاق مسؤولياتها في الالتزام بالسر المهني البنكي، أما المقر الرئيسي فيبقى خاضعا للقانون الوطني المغربي.

هذا ما يسير عليه كل من التشريعين المغربي والفرنسي في تعريف المؤسسة البنكية وشروط ممارستها للنشاط البنكي، حتى تدخل في نطاق الالتزام بالسر المهني البنكي، وأن مخالفتها لهذه الشروط والأحكام يعرضها للمساءلة الجنائية.

    وإذا كان المشرع المغربي ونظيره الفرنسي يكتفيان بالشروط العامة لممارسة العمل البنكي فإن بعض التشريعات المقارنة تطلبت شروطا خاصة، كالقانون اللبناني الذي نص في الفصل 1 من قانون سرية المصارف اللبنانية رقم 6 لسنة 1956،على أنه تخضع لسر المهنة المصارف المؤسسة في لبنان في شكل شركات مغلقة، وفروع الشركات الأجنبية. بشرط حصول كل هذه المؤسسات على موافقة خاصة يعطيها وزير المال لهذه الغاية.واستثنى من أحكام هذا القانون مصرف التسليف الزراعي والصناعي والعقاري[5].

وبحسب هذه المادة، لا تستطيع كل المصارف العاملة في لبنان، الاستفادة من السرية المصرفية، بل قسم منها وحده، هو الذي يحق له التمتع بهذا النظام، بعد تقديم طلب في الموضوع إلى وزير المال، والحصول على إذن منه[6]. ويخضع إعطاء هذا الإذن إلى سلطة الوزير التقديرية تماشيا مع مصالح الدولة، غير أنه في حالة الرفض، يمكن الطعن في هذا القرار، بالشطط في استعمال السلطة أمام محكمة النقض اللبنانية.

كما يسير قانون البنوك وصناديق الادخار السويسري[7] في هذا الاتجاه، إذ يفرض على البنوك الأجنبية التي تباشر نشاطها في سويسرا ضرورة التقيد بالسر المهني البنكي؛ على غرار الشركات التابعة وموظفو فروع البنوك، أو وكلاؤها المعينون في سويسرا. إذ لا يسمح لها بإفشاء أسرار الزبناء بل تبقى مدينة لهم في هذا الالتزام.

كما يمنع على المديرين والمستخدمين في الشركات التابعة السويسرية أو فروع البنوك الأجنبية، أن يفشوا أية معلومات تتعلق بزبنائهم للشركات الأصلية (الشركات الأم) أو للمكتب الرئيسي، أو لمراقب الحسابات الأجنبي أو للسلطات الأجنبية.

إضافة إلى البنك كمؤسسة،ألزم المشرع عدة أشخاص آخرين بالحفاظ على السر المهني البنكي، وبالتالي أدخلهم في نطاق المسؤولية عن إفشاء السر المهني البنكي، باعتبارهم مدينين في هذا الالتزام.

الفقرة الثانية: من له حق الاطلاع والمراقبة.

نص المشرع المغربي في المادة 79 من القانون المتعلق بمؤسسات الائتمان والهيئات المعتبرة في حكمها، على مجموعة من الأشخاص الذين يشتغلون في دائرة البنك وألزمهم بكتمان السر المهني البنكي، وعليه فنطاق المسؤولية يتسع ليشمل كل شخص له علاقة بالمؤسسات البنكية، وله حق الاطلاع والمراقبة. فنجد المشرع يستخدم عبارات واسعة وعامة وغير محددة، مثلا: "جميع الأشخاص الذين يشاركون بأي وجه من الوجوه في إدارة مؤسسة ائتمان أو تسييرها أو تدبيرها أو يكونون مستخدمين لديها وأعضاء المجلس الوطني للائتمان والادخار ولجنة مؤسسات  الائتمان واللجنة التأديبية لمؤسسات الائتمان ولجنة التنسيق بين أجهزة الرقابة بالقطاع المالي، والأشخاص المكلفين ولو بصفة استثنائية بأعمال تتعلق بمراقبة المؤسسات الخاضعة لرقابة بنك المغرب عملا بهذا القانون وبوجه عام كل شخص يدعى بأي وجه من الوجوه للاطلاع على المعلومات المتعلقة بالمؤسسات المذكورة أو لاستغلالها…"[8] كل هؤلاء الأشخاص يلتزمون بكتمان السر المهني تحت طائلة العقوبات الجنائية والتأديبية.

لكن ما يلاحظ على المشرع هو إغراقه في العموميات، وعدم تحديد الأشخاص بشكل دقيق كما فعلت بعض التشريعات المقارنة.

    فمثلا نص المشرع المصري في المادة الأولى من القانون رقم 205 لسنة 1990[9] على أنه" تكون جميع حسابات العملاء وودائعهم وأماناتهم وخزائنهم في البنوك، وكذلك المعاملات المتعلقة بها سرية، ولا يجوز الاطلاع عليها أو إعطاء بيانات عنها بطريق مباشر أو غير مباشر…"

ووضح المشرع المصري في هذا السياق الأشخاص الملتزمين بهذا السر فنص في المادة 5 من نفس القانون أنه:" يحظر على رؤساء وأعضاء مجلس إدارة البنوك ومديريها أو العاملين بها إعطاء أو كشف أية معلومات أو بيانات عن عملاء البنك أو حساباتهم أو ودائعهم أو الأمانات أو الخزائن الخاصة بهم…أو تمكين الغير من الاطلاع عليها في غير الحالات المرخص بها بمقتضى أحكام القانون".

بناء على ما سبق، فإذا قام أحد الأشخاص المشار إليهم أعلاه، والذين تمكنوا من الاطلاع على كل أو بعض المعلومات المتعلقة بالحسابات البنكية، بإفشاء هذه المعلومات إلى الغير، فإنه يقع تحت طائلة الجزاءات الخاصة التي نص عليها القانون رقم 205 لسنة 1990.

وعلى نهج التحديد الدقيق للأشخاص الملتزمين بالسر المهني البنكي سار قانون سرية المصارف اللبناني لسنة 1956 حيث نص في المادة الثانية منه على أن مديري ومستخدمي المصارف (المصارف اللبنانية وفروع المصارف الأجنبية)، وكل من له حق الاطلاع بحكم صفته أو وظيفته بأي طريقة كانت على قيود الدفاتر والمعاملات والمراسلات المصرفية، يلزمون بكتمان السر إطلاقا لمصلحة زبائن هذه المصارف، ولا يجوز  لهم إفشاء ما يعرفونه عن أسماء الزبائن وأموالهم والأمور المتعلقة بهم لأي شخص فردا كان أو سلطة عامة إدارية أو عسكرية أو قضائية، إلا في حالات ضيقة منصوص عليها قانونا[10].

يتضح من هذه المادة، أن المشرع اللبناني يأخذ بالسرية المطلقة، حيث إن هذا الالتزام لا يسقط في مواجهة جهات مهمة مثل السلطة العامة وجهاز القضاء. الشيء الذي نجده ضمن الحالات التي ترفع فيها هذه السرية في بلدان عديدة، كما أن هذه الصرامة في تحديد المسؤولية لا يوازيها إلا رغبة المشرع اللبناني في جلب الزبائن وتوفير مناخ ازدهار العمل البنكي، وبالتالي ضمان طمأنينة زبناء البنوك.

كما أن المشرع السويسري كان أكثر وضوحا في تحديد الأشخاص الملتزمين بالحفاظ على السر المهني البنكي ، إذ نص في المادة 47 من القانون الفيدرالي السويسري الخاص بالبنوك وصناديق التوفير الصادر في 8 نونبر 1934 على أن "كل من يفشي عمدا معلومات سرية عهد إليه بها بصفته مديرا،أو مفوضا أو مأمور تصفية، أو مأمور تنفيذ لبنك، أو كعضو في لجنة مصرفية أو كمراقب حسابات أو توصل إلى معرفتها بهذه الصفة، وكل من يحرض شخصا على انتهاك السر المهني…"[11].

ويستنتج من هذا النص أن عباراته قابلة للتطبيق على أشخاص محددين بذواتهم، وليس على البنوك كأشخاص معنوية، لتفادي كل غموض في المسؤولية. وعليه ينبغي على المشرع المغربي أن يقتدي بنظيره السويسري فيما يتعلق بتحديد الأشخاص الملتزمين بالسر المهني البنكي بشكل دقيق وواضح، حتى يبقى نطاق المسؤولية محددا وغير غامض، وحتى لا تضيع المسؤولية بين كثرة الأشخاص، وبالتالي يتسنى للزبون اقتضاء حقه باعتباره متضررا من إفشاء السر البنكي.

المطلب الثاني: الزبون.

يشمل نطاق السر البنكي من حيث الأشخاص الزبون باعتباره الطرف الدائن في هذا الالتزام، وهو الذي أودع سره لدى البنك، أو أطلعه عليه واطمأن إلى أنه سيكتمه[12]. مما يعني أن موجب هذا السر وضع لمصلحة الزبون، ولا يجوز للملتزمين به إفشاء ما يعرفونه عن زبنائهم لأي سبب كان، إلا فيما يتعلق بالاستثناءات التي تشكل حدودا لهذا الموجب.

وهذا الزبون يجب أخذه بمفهوم واسع، فهو يمكن أن يكون شخصا طبيعيا(الفقرة الأولى)، كما يمكن أن يكون شخصا معنويا(الفقرة الثانية)، بشرط أن يلجأ إلى البنك للاستفادة من خدماته، وأن يوافق هذا الأخير على القيام بالعمليات التي طلبها.



الفقرة الأولى: الزبون شخص طبيعي.

تجدر الإشارة أن المشرع المغربي لم يخصص حيزا للحديث عن الزبون كمستفيد من السر المهني البنكي، سواء في القانون المتعلق بمؤسسات الائتمان والهيئات المعتبرة في حكمها الجديد، أم في القانون القديم الذي كان يتعلق بنشاط مؤسسات الائتمان ومراقبتها، لكنه تحدث عن الزبون خلال تنظيمه للشيك المسطر في المادة 281 من مدونة التجارة[13].

وفي ظل عدم الوضوح الذي يكتنف التشريع المغربي حول مفهوم الزبون كدائن في الالتزام بالسر المهني البنكي، ومستفيد منه، سنبحث في التشريعات المقارنة عن تبيان   هذا المفهوم.

فالمشرع اللبناني نص في المادة الثانية من قانون سرية المصارف على أن: "مديري ومستخدمي المصارف…. ملزمون بكتمان السر إطلاقا لمصلحة زبائن هذه المصارف ولا يجوز لهم إفشاء ما يعرفونه عن أسماء الزبائن وأموالهم والأمور المتعلقة بهم…".

و يستفاد من هذه المادة أن الالتزام بالسر المهني البنكي وضع لمصلحة الزبون. ولا يجوز أن يستفيد منه إطلاقا إلا الزبون أو من يرخص له هذا الأخير بإذن كتابي، ولذلك فمن الطبيعي أن يكون لهذا الشخص حق الاطلاع على الوثائق التي دون فيها سره، دون أن يكون للبنك التمسك في مواجهته بالسر، وكذلك يكون له أن يتنازل عن حقه بأن يسمح للبنك بإفشاء الواقعة التي كانت مناط سر بالنسبة إليه.

هذه القاعدة تبدو طبيعية حسب بعض الفقه[14] ولا تثير خلافا، لأن الزبون هو صاحب السر، ولا يمكن أن ينتج التزام البنك بالكتمان أي أثر في مواجهته.

ومع ذلك لم يعط المشرع اللبناني مدلولا محددا للزبون، رغم أنه تحدث عنه في المواد التي تعنى بسرية الحساب المصرفي.

كما أن المشرع الفرنسي لم يعط بدوره تحديدا لمدلول الزبون تاركا هذا التحديد للفقه والقضاء. الشيء الذي يجعلنا نتقفى هذا الفقه والقضاء حول مدلول الزبون.

لقد حاول الفقه والاجتهاد القضائي الفرنسيان تحديد معنى الزبون في سياق البحث عن الزبون المستفيد من الشيك المسطر، ومر هذا التعريف بمرحلتين[15] :

–       مرحلة المفهوم الضيق:

حيث كان الفقه الفرنسي في هذه المرحلة يعتبر الزبون كل شخص معروف من طرف البنك، لأنه فتح حسابا لديه، وكان يستبعد المتعامل العابر، أو العارض.

وفي هذا السياق كان الاجتهاد القضائي يشترط وجود علاقات سابقة ومستمرة بين البنك، وبين المتعامل معه لاعتباره من زبنائه، وأن الشخص الذي يتقدم لأول مرة إلى البنك لا يكتسب صفة الزبون لمجرد قيامه بعملية مصرفية عارضة لم تتم بمحض اختياره وإدارته.

لكن مع صدور الحكم بالنقض سنة 1962 انفصل الاجتهاد القضائي عن الفقه وأخذ منحى تفسيريا واسعا لمفهوم الزبون[16].

– مرحلة المفهوم الواسع:

ومع هذا الاتجاه القضائي الذي وسع من مفهوم الزبون معتبرا أنه يكفي لكي يعتبر الشخص زبونا للبنك، أن يكون معروفا بصورة مباشرة أو غير مباشرة من قبل البنك، ويمكن أن تنتج هذه الصفة عن مجرد عملية تحقق بسيطة من هوية طالب فتح الحساب، ودون أن يستتبع ذلك بالضرورة وجود علاقات سابقة ودائمة.

إلا أن هذا التحول في الاجتهاد القضائي الفرنسي لم يستقطب الموافقة الإجماعية للفقه الذي بقي بمجمله ملتزما بالمفهوم الضيق للزبون[17].

لكن إذا كان البعض[18] يوجب التشدد في قبول صفة الزبون تجاه حاملي الشيكات المسطرة، فإن هذا التشدد غير مقبول في مجال السرية المصرفية، لأن من شأن التضييق المطبق على هذه الشيكات وضع حد لأعمال الغش والاحتيال. في حين أن الأخذ بروح الالتزام بالسر البنكي يقتضي عدم التشدد وعدم التضييق. لأن من شأن التشدد في هذه الصفة أن يضيع حق الزبون كدائن في هذا الالتزام، وأن يضيق من نطاق المسؤولية إلى درجة يتم إقصاء عدة زبناء لمجرد أن ليس لهم علاقات سابقة مع البنك المدين بهذا الالتزام.

إلا أنه لا يجوز بأي شكل من الأشكال إضفاء صفة "زبون البنك" على أشخاص حصلت لهم معاملات مع البنك باستعمال طرق ملتوية غير شريفة عن طريق السرقة أو الاحتيال مثلا. فسارق الشيك لا يمكن اعتباره من زبناء البنك أو من المتعاملين معه، وبالتالي لا يحق له التمسك بموجب السرية البنكية[19].

يستنتج مما سبق أنه يجب عدم التشدد في صفة الزبون عند الحديث عن السر المهني البنكي، واعتماد التفسير الواسع لهذه الصفة لتشمل جميع الأشخاص المتعاملين مع البنك أو بواسطته، كيفما كان نوع وظروف هذا التعامل. وعليه فلكي يعتبر الشخص زبونا في مفهوم السر المهني البنكي، لا حاجة لأن يكون صاحب حساب مفتوح في دفاتر البنك، أو قد جرت بينه وبين هذا البنك علاقات سابقة أو دائمة أتاحت فرصة معرفته والتدقيق في هويته، بل يكفي لكي يعتبر الشخص زبونا أن يكون قد قام بعمليات بنكية مهما كان نوعها وقيمتها شريطة أن يقرها القانون ويحميها.

الفقرة الثانية: الزبون شخص معنوي.

إن صفة الزبون لا تقتصر على الشخص الطبيعي فحسب، بل يمكن أن تشمل حتى الأشخاص المعنوية، خصوصا وأن الشخص المعنوي، مهما كان شكله القانوني وطبيعته، يتوفر على الشخصية القانونية التي تجعل منه كيانا قانونيا ذا ذمة مالية مستقلة عن ذمم الأشخاص الطبيعيين الذي يؤلفونه، الشيء الذي يجعل منه زبونا يتمتع بكل مقومات الشخصية القانونية. هذه الشخصية التي تشكل وعاء لاستقبال الحقوق وتحمل الالتزامات[20].

وهكذا لا يقتصر نطاق المسؤولية عن إفشاء السر المهني البنكي في مواجهة البنك، على الأشخاص الطبيعيين، بل يشمل حتى الأشخاص المعنويين باعتبارهم دائنين في الالتزام بالسر البنكي.

فمجرد أن يتقدم ممثل الشخص المعنوي[21] إلى البنك للاستفادة من خدماته أو للقيام ببعض العمليات البنكية يكتسب صفة الزبون، ويصبح بالتالي دائنا في مواجهة البنك،  فيتسع من ثم نطاق المسؤولية ليشمله. خاصة وأن طلب خدمات الأبناك من قبل الشخص المعنوي(وخصوصا الشركات التجارية والتجار) هو ضرورة قانونية[22].

يترتب على ما سبق، أن المستفيد من التزام البنك بكتمان السر المهني في هذه الحالة، هو الشخص المعنوي، باعتباره أودع أسراره لدى البنك عندما دخل معه في تعاملات بنكية، وبالتالي لا يجب أن يتحول هذا الالتزام إلى سلاح يحجب بعض الأمور على الزبون نفسه.

وهذه القاعدة واضحة ولا تثير خلافا، إذ كرسها القضاء المقارن في العديد من التطبيقات، منها ما ورد عن القضاء التونسي [23]، وذلك في قضية خلاصتها أن شركة واقع انحلت بحكم قضائي، وعين لها مصفون بمقتضى الحكم ذاته، ولما بدأ المصفون في عملياتهم وجدوا صعوبات بسبب ضياع دفاترها، فلجؤوا إلى البنك الذي كانت الشركة تتعامل معه لتقديم المعلومات التي يطلبونها، فرفض  البنك متدرعا بأن ذلك يدخل في سر المهنة البنكية. فقضت محكمة تونس بأنه "إذا كانت المستندات المحاسبية التي قدمت للبنك قد أصبحت ماديا ملكا له، فإن المعلومات التي فيها ليست كذلك، بل إن ما بالدفاتر والمراسلات ومحاضر الجرد… ملك الشركة ذاتها، ولا يمكن أن يحتج بالحق في كتمانها على الشركة ذاتها، أو على ممثليها الذين عينهم القضاء في مهمة تستلزم الاطلاع على هذه المستندات". وحكمت على البنك بغرامة تهديدية عن كل يوم تأخير في تقديم المعلومات المطلوبة، وتأكد هذا الحكم في قرار استئنافي بتاريخ 9 يوليوز 1976[24].

وإجمالا لا يعتبر مستخدمو المصرف زبناء له، وإن كانوا يتقاضون مرتباتهم من صندوقه، لأنهم لا يتعاملون معه كزبائن، بل كعمال ومستخدمين وهذا التعامل لا يدخل ضمن نطاق العمليات البنكية التي من شأنها أن تجعلهم زبناء[25].

كما أن الزبون السابق للبنك الذي انقطعت علاقته به ولم يعد له أي اتصال مع البنك، لا يتمتع بصفة الزبون شأنه في ذلك شأن مزور إمضاء الشيك الذي لا يعتبر زبونا للبنك، ولا متعاملا يحق له الاستفادة من السر المهني البنكي، لكي لا يحمي نفسه من الجرم الذي ارتكبه.

ويستخلص مما سبق أن نطاق المسؤولية من حيث الأشخاص يتسع ليشمل طرفي الالتزام؛ البنك باعتباره المدين في الالتزام بالسر المهني البنكي وكل مستخدميه والأشخاص الذين حددهم المشرع في المادة 79 من القانون المتعلق بمؤسسات الائتمان والهيئات المعتبرة في حكمها مع ما يكتنف هذه المادة من عدم الوضوح والدقة في تحديد المسؤولية مقارنة مع بعض التشريعات المقارنة، والزبون بمفهومه الواسع باعتباره دائنا في هذا الالتزام ومن يمثل هذا الأخير وينوب عليه مما يوفر حماية له باعتباره طرفا ضعيفا في هذا الالتزام. إضافة إلى أنه كلما حافظ البنك على أسرار زبنائه، كلما ازداد عددهم وارتفع حجم تعاملاتهم، الشيء الذي يقوي الثقة في الائتمان ويعود بالخير على الحياة الاقتصادية بشكل عام.

وإذا كان هذا ما يتعلق بنطاق المسؤولية من حيث الأشخاص الملتزمين بالسر المهني البنكي، فما هو نطاقها من حيث مضمون السر الواجب الالتزام به ومدته؟







المبحث الثاني: مضمون السر الواجب الالتزام به و مدته.

إن الالتزام بالمحافظة على السر المهني البنكي، يقع على عاتق البنك تجاه كل زبنائه سواء كانوا أشخاصا طبيعيين أو معنويين، الشيء الذي يجعلنا نتساءل عن ماهية الوقائع والمعلومات التي يتوجب على البنك المحافظة على سريتها لصالح زبنائه، وإلى أي مدى تبقى هذه الوقائع سرية؟

المطلب الأول: مضمون السر الواجب الالتزام به

يختلف مضمون السر المهني البنكي باختلاف التشريعات، الشيء الذي يجعلنا نبحثه في كل من التشريع المغربي وفي التشريعات المقارنة.

الفقرة الأولى: مضمون السر المهني البنكي في التشريع المغربي.

لم يبين المشرع المغربي، سواء في القانون الذي كان يتعلق بنشاط مؤسسات الائتمان ومراقبتها القديم، أم في القانون المتعلق بمؤسسات الائتمان والهيئات المعتبرة في حكمها الجديد، الوقائع والمعلومات التي يتوجب على البنك المحافظة على سريتها، بل اكتفى بذكر عبارة عامة[26]. كما أن النص المحال عليه في القانون الجنائي- الفصل 446- لم يبين هو الآخر هذا المضمون، وإنما نص بشكل من العمومية، حيث عاقب كل شخص يعتبر من الأمناء على الأسرار، بحكم مهنته أو وظيفته، الدائمة أو المؤقتة، إذا أفشى سرا أودع لديه، بعقوبات حبسية زيادة عن الغرامة.

وأمام هذا الغموض الذي يعتري التشريع المغربي حول تبيان المقصود بالوقائع والمعلومات التي يتوجب على البنك المحافظة على سريتها، يتحتم علينا البحث في الفقه عن حل لهذا الإشكال.

لقد أورد الفقه أسلوبين لتحديد الوقائع والعمليات التي تقع في إطار السر المهني البنكي:

فالفقه الألماني اختار الأسلوب التعدادي[27] لتفصيل الوقائع والأشياء المشمولة بالسرية البنكية، فهذه الأخيرة تشمل الحسابات نفسها وتحركاتها وظروف هذه التحركات، وذلك بوضع لائحة مفصلة[28].

بينما عمد الفقه السويسري[29] إلى تبني أسلوب التفرقة الذي يقوم على معيارين أحدهما موضوعي والآخر شخصي.

فحسب المعيار الموضوعي، يكون كل فعل علمه البنك إبان تعامله مع الزبون مشمولا بالسرية، بشرط أن يكون ذلك مجهولا تماما من قبل الجمهور. فكل ما يعلمه البنك خارج نطاق نشاطه يكون خارج نطاق السرية.

أما حسب المعيار الشخصي، فإنه تؤخذ بعين الاعتبار إرادة الزبون التي تريد الإبقاء على سرية الأعمال المصرفية، مع الإشارة إلى أن إرادة الزبون والتزام البنك بالصمت هما مفترضان، فلا يستطيع البنك تمييز الأفعال والوقائع بحسب طبيعتها المالية أو المعنوية.

والحقيقة أن كل هذه الأساليب والمعايير المذكورة تكمل بعضها البعض، إذ من المتفق عليه أن السر المهني البنكي لا يطال سوى المعلومات الدقيقة والمرقمة، كمقدار رصيد الزبون دائنا كان أم مدينا، وحركة هذا الحساب، وصرف أو تسليم القيم المنقولة، إضافة إلى ما يقدمه الزبون من ضمانات شخصية أو عينية.

كما يمتد نطاق المسؤولية من حيث مضمون السر، إلى مشروع العمليات التي لم تنفذ والمفاوضات التي لم تسفر عن أية نتيجة. ولا يقتصر السر على ما يقوله الزبون فقط بل يمتد إلى كل ما يودعه أو يسحبه أو يجريه من تعامل مع البنك[30].

كما أن العادات والأعراف السائدة في العمل البنكي لا تخرج عن هذا الإطار، فهي تدخل في مضمون السر الواجب الالتزام به، كل العمليات البنكية والحسابات المتعلقة بالزبون، وعموما كل الأشياء المؤتمنة التي عرفت بهذه المناسبة.

 وتجدر الإشارة في هذا الصدد أن البنك بإمكانه منح معلومات من طبيعة عامة، يطلق عليها في العمل البنكي، les simple renseignements  كالقول بأن مقاولة ما أو شركة ما تابعة  لأحد زبناء المؤسسة البنكية.

كما يمكن أن يسأل البنك عن ملاءة زبون ما؛ مما يوجب على البنكي الإجابة بعبارات مقتضبة وعامة، كالقول مثلا بأن الأداء منتظم أو العكس. وفي هذا الصدد جاء قرار لاستئنافية باريس بتاريخ 6 فبراير 1975  أن إعطاء هذا النوع من المعلومات من طرف البنوك لا يعد خرقا لمضمون السر الواجب الالتزام به، فقط يجب على البنوك الالتزام بالموضوعية والتحفظ[31].

الفقرة الثانية: مضمون السر المهني البنكي في التشريعات المقارنة.

على عكس التشريع المغربي الذي اكتفى بإيراد نصوص وعبارات عامة لا تفيد في التحديد الدقيق لمضمون السر المهني البنكي الواجب على البنوك الالتزام به، كانت العديد من التشريعات المقارنة دقيقة في تحديد هذا المضمون.

فالمشرع المصري في المادة الأولى من القانون رقم 205 لسنة 1990 المتعلق بسرية الحسابات في البنوك، نص على أن " تكون جميع حسابات العملاء وودائعهم وأماناتهم وخزائنهم في البنوك، وكذلك المعاملات المتعلقة بها سرية ولا يجوز الاطلاع عليها أو إعطاء بيانات عنها بطريق مباشر أو غير مباشر…".

    يتضح من هذا النص أنه وسع من مضمون السر المهني البنكي ليشمل جميع حسابات الزبناء بالبنوك، سواء كانت هذه الحسابات خاصة بالأفراد أم بالشركات والجمعيات أو غيرها من الأشخاص المعنوية الخاصة أو العامة.

كما يشمل النص الحسابات سواء كانت عادية أم جارية، وقد حرصت المادة 377 من قانون التجارة المصري الجديد على أنه " إذا كان الحساب الجاري مفتوحا لدى بنك فلا يجوز للبنك إعطاء بيانات أو معلومات عن رقم الحساب أو حركته أو رصيده إلا لصاحب الحساب أو وكيله الخاص أو لورثته أو الموصى لهم بعد وفاته…".

ويشمل النص أيضا جميع أنواع الودائع، سواء كانت جارية أو لأجل وكل ما يسلم للبنك على سبيل الأمانة من أوراق مالية أو تجارية أو أية صكوك أخرى[32]. وعليه تشمل السرية جميع المعاملات المتعلقة بهذه الحسابات أو الودائع من سحب أو إضافة أو قفل، كما يستوي أن تكون هذه الحسابات بالعملة الوطنية أو الأجنبية، حيث لم يحدد النص نوع هذه العملة[33]. كما تجدر الإشارة إلى أن المشرع المصري استحدث في قانونه الخاص بسرية الحساب، نظام الحسابات والودائع الرقمية[34] إمعانا منه في الحفاظ على سرية حسابات الزبناء[35].

ويتضح  مما سبق أن المشرع المصري وضح مضمون السر المهني البنكي بشكل يرفع اللبس والغموض، ويبين حدود هذا الالتزام حتى يوفر الحماية اللازمة للزبناء، بالرغم من أنه وسع من هذا النطاق بشكل كبير.

كما أن المشرع اللبناني كان أكثر وضوحا في تحديد نطاق هذا السر وحدوده، فنص في المادة الثانية من قانون سرية المصارف اللبنانية لسنة 1956 على أن " مديري ومستخدمي المصارف المشار إليها في المادة الأولى، وكل من له حق الاطلاع بحكم صفته أو وظيفته بأية طريقة كانت على قيود الدفاتر والمعاملات والمراسلات المصرفية ملزمون بكتمان السر إطلاقا لمصلحة زبائن هذه المصارف ولا يجوز لهم إفشاء ما يعرفون عن أسماء الزبائن وأموالهم والأمور المتعلقة بهم لأي شخص …". كما تنص المادة الثالثة من نفس القانون على أنه " يحق للمصارف أن تفتح لزبنائها حسابات وودائع مرقمة لا يعرف أصحابها غير المدير القائم على إدارة المصرف أو وكيله، ولا تعلن هوية صاحب الحساب المرقم إلا بإذنه الخطي…" كما يحق لهذه المصارف أن تؤجر خزائن حديدية تحت أرقام بالشروط ذاتها.

وعليه فقد شملت السرية المصرفية في ظل هذا القانون جميع زبائن المصرف بشكل لم تنحصر معه السرية بأصحاب الودائع والحسابات الدائنة فقط، بل إنها شملت أيضا جميع المعاملات المصرفية من أي نوع كانت.

وفي هذا السياق قضت محكمة التمييز اللبنانية بأن نطاق السر المصرفي لا يتسع ليشمل حسابات وودائع المتعاملين مع المصرف أو أسمائهم فحسب، بل أيضا نوع هذا الحساب ووضعه، دائنا أم مدينا، ورصيده إيجابيا أم سلبيا، ومواعيد استحقاق الديون التي اقترضها من المصرف، ورقم مبلغ الاعتمادات المفتوحة له، وكافة المعلومات المتعلقة بالشيكات سواء المودعة في الحساب أم المسحوبة منه[36].

وفي سويسرا، تحظر المادة 47 من قانون البنوك وصناديق الادخار لسنة 1934 إفشاء أي معلومات سرية عن الزبناء تكون قد وصلت إلى علم البنك بمناسبة نشاطه، ما لم يكن هذا الإفشاء مسموحا به قانونا، بل إن نطاق السرية يمتد ليشمل جميع الوقائع والمعلومات التي تتصل بالنشاط البنكي حتى ولو لم تكن من أسرار المهنة البنكية.

لكن التشريعات الأنجلوأمريكية طبعت نطاق المسؤولية من حيث مضمون السر الواجب الالتزام به، بطابع خاص انعكس على طريقة صياغة تشريعاتها المتعلقة بالسر المهني البنكي والحق في الخصوصية، إذ أن هذه التشريعات لا تنظم العلاقة بين الزبون والبنك، أو أي واجب بالسرية مستحق على البنك لزبونه، وإنما تخص بالدرجة الأولى بعض مظاهر العلاقة بين الفرد والدولة بناء على التوازن بين الحق في الخصوصية،و المهام الرقابية للدولة، للسيطرة على الأنشطة غير المشروعة[37].

وعموما يختلف مضمون السر البنكي ونطاقه من تشريع لآخر، ويرتبط نطاق المعلومات والوقائع المشمولة بالسرية والمعلومات المسموح بإفشائها، بالغرض الذي يسعى كل تشريع إلى تحقيقه، والدور الذي يناط بالبنوك أن تؤديه، فبعض التشريعات تتولى تحديد المعلومات والوقائع التي يعتبر إفشاؤها غير قانوني، وفي البعض الآخر يتولى الفقه والقضاء تحديدها، وعند قيام حدود هذا السر، قد يوسع البعض منه وقد يضيقه البعض الآخر.

المطلب الثاني: مدة السر الواجب الالتزام به
إضافة إلى معرفة الوقائع والمعلومات التي تشكل مضمون السر الواجب الالتزام به من طرف البنك، يستمر هذا الالتزام في الزمان، ولا ينقضي بانقضاء علاقة الزبون بالبنك لأي سبب من الأسباب. وعليه سنبحث حالتين؛ حالة انتهاء العقد الرابط بين البنك والزبون، و الآثار التي يمكن أن تترتب عن إفشاء الأسرار في هذه الحالة(الفقرة الاولى)، وحالة وفاة الزبون والتزام البنك في مواجهة الورثة(الفقرة الثانية).

الفقرة الأولى: استمرار التزام البنك بالمحافظة على السر بعد انتهاء العقد.

يبقى البنك ملزما بكتمان السر المهني البنكي بعد انتهاء مدة العقد الرابط بينه وبين الزبون، لأن مصلحة هذا الأخير هي التي تحدد مدى هذا الالتزام، بالاستناد إلى مبدأ حسن النية[38]. فرغم انتهاء العمليات التي كانت تشكل موضوع العقد، يبقى الالتزام بكتمان الأسرار التي اطلع عليها البنك أثناء علاقته بالزبون قائما وينتج أثاره.

ويرى البعض [39] أن إفشاء الأسرار في هذه الحالة، يستتبع قيام المسؤولية التقصيرية التي تضاف إلى المسؤولية العقدية، ويكون للزبون المتضرر الخيار بين المسؤوليتين[40]، واستمرار هذا الالتزام يحقق حماية للزبون والتي يكون في أمس الحاجة إليها بعد انتهاء علاقته بالبنك[41].

وإذا كان المشرع المغربي لم يتحدث عن مدة هذا الالتزام سواء في القانون المتعلق بمؤسسات الائتمان والهيئات المعتبرة في حكمها، أم في الفصل 446 المحال عليه في القانون الجنائي، فإن المشرع المصري نص في المادة الأولى من قانون سرية الحسابات البنكية، في سياق الحديث عن البيانات المحظور إفشاء سريتها على  أنه "… يظل الحظر قائما حتى ولو انتهت العلاقة بين العميل والبنك لأي سبب من الأسباب ". كما أن الفقرة الثالثة من المادة 47 من قانون البنوك وصناديق الادخار السويسري تنص على أنه " يظل انتهاك السر المصرفي معاقبا عليه بعد انتهاء علاقة العمل ( الوظيفة ) العامة أو الخاصة أو ممارسة المهنة".

لكن نجد العكس في القوانين الأنجلوأمريكية حيث لا يمتد الالتزام بالمحافظة على السر البنكي إلى المعلومات الخاصة بالزبون، والتي تم الحصول عليها بعد انقطاع علاقته بالبنك. ففي قضية Tournier وهي السند والمرجع الرئيسي لأحكام السرية البنكية في القوانين الأنجلوأمريكية قضت المحكمة بعدم امتداد الالتزام بالسرية إلى المعلومات الخاصة بالزبون، والتي تمت معرفتها بعد انتهاء علاقته بالبنك[42].

الفقرة الثانية: استمرار محافظة البنك على السر بعد وفاة الزبون.

يستمر موجب حفظ السر من قبل البنك بعد وفاة الزبون، لأن العمليات المختلفة التي كان يجريها الزبون مع البنك قد تبقى مستمرة، وتتحول إلى ذمة الورثة، الذين يظل موجب حفظ السر ملزما للبنك لمصلحتهم أو لفائدتهم: فلكل وارث الحق شخصيا في الاستفادة من جميع المعلومات المتوفرة لدى البنك تطبيقا لمبدأ التضامن بين الورثة، ولأن شخصية الوارث هي متممة لشخصية المورث في هذه الحالة[43]. لكن عكس الورثة يمكن الاحتجاج بالسر المهني البنكي، في مواجهة الموصى لهم الخصوصيين أو الموهوب لهم، ما لم تكن الهبة تتضمن أموالا يحوزها البنك[44].

أما إذا منع الزبون البنك من إعطاء الورثة بعض المعلومات التي تعود إلى عمليات لها طابع شخصي جدا، فإن البنك عليه التقيد بهذا المنع. هذا ما يجري به العمل في سويسرا، خاصة عندما يتعلق الأمر بأمور شخصية معروفة من قبل البنك إبان قيام الزبون (الهالك) بنشاطه[45].



الفرع الثاني: حالات الإعفاء من المسؤولية وبعض الإشكالات التي تواجهها.

بدأت في الآونة الأخيرة تتسع حالات الإعفاء من هذه المسؤولية بسن عدة نصوص قانونية تعفي البنوك والمؤسسات المالية من التقيد بالسر المهني البنكي عندما يتعلق الأمر ببعض الحالات التي تمس المصلحة العامة، إذ يسمح للبنوك  بإفشاء هذا السر رغم كل ما يمكن أن ينتج عن هذا الإفشاء (المبحث الأول)، وتبقى الموجة الدولية التي يعرفها العالم لمكافحة عمليات غسل الأموال، زيادة على تطور الوسائل التكنولوجية الحديثة، أهم تحديات تواجه هذه المسؤولية (المبحث الثاني).

المبحث الأول: حالات الإعفاء من المسؤولية عن إفشاء السر المهني البنكي.

يتعين على البنك أن يكتم المعلومات التي توصف بالسرية فلا يبوح بها، إلا إذا أعفاه صاحب الحق في السر من هذا الالتزام. لكن توجد حالات معينة يتحرر فيها البنك من الالتزام بالسر المهني في كل مرة يلزمه فيها القانون  بالبوح، أو على الأقل يحميه فيها من نتائج هذا البوح، ويتم ذلك عندما تبرز المصلحة العليا التي تقدم على مصلحة البنك أو زبونه.
الشيء الذي يتضح معه، أنه توجد حالات الإعفاء من المسؤولية عن إفشاء السر المهني البنكي، إما بموجب القانون(المطلب الأول)،أو بموجب الاتفاق(المطلب الثاني).
المطلب الأول: حالات الإعفاء بموجب القانون.
بعدما أقر المشرع المغربي، أن الأصل هو الالتزام بكتمان السر المهني البنكي في المادة 79 من قانون 14 فبراير 2006 المتعلق بمؤسسات الائتمان والهيئات المعتبرة في حكمها، انتقل في المادة 80 من نفس القانون ليضع حدودا واستثناءات لهذا الالتزام. حيث نص على أنه:" زيادة على الحالات المنصوص عليها في القانون، لا يجوز الاحتجاج بالسر المهني على بنك المغرب والسلطة القضائية العاملة في إطار مسطرة جنائية[46].

ويلاحظ على هذا النص، أن المشرع المغربي وضع عبارات عامة وغير دقيقة جمع فيها عدة حالات[47] الشيء الذي يحتم علينا البحث عن هذه الحالات في باقي فروع القانون الأخرى، وخاصة القانون الضريبي الذي تضمن نصوصا صريحة تمنح حق الاطلاع والمراقبة، وتبادل المعلومات لفائدة إدارة الضرائب لكي تتمكن من الحصول على جميع المعلومات التي من شأنها أن تفيدها في ربط ومراقبة الضرائب دون إمكانية الاعتراض على ذلك بحجة كتمان السر المهني.

وعليه، سنتناول في ثلاث فقرات، السر المهني البنكي في مواجهة إدارة الضرائب[48] وبنك المغرب، والسلطة القضائية العاملة في إطار مسطرة جنائية.

الفقرة الأولى: السر المهني البنكي في مواجهة إدارة الضرائب.

 تنص المادة 214 من المدونة العامة للضرائب الصادرة في القانون المالي لسنة2007[49]على حق الاطلاع وتبادل المعلومات، الذي بموجبه يجوز لإدارة الضرائب – كي تتمكن من الحصول على جميع المعلومات التي من شأنها أن تفيدها في ربط ومراقبة الضرائب والواجبات والرسوم المستحقة على الغير- أن تطلب الاطلاع على الوثائق المحاسبية ومطابقتها للواقع والمستندات المصرح بها من قبل الملزمين بالضريبة، دون إمكانية الاعتراض على ذلك بحجة كتمان السر المهني.

ويعرف أحد الباحثين حق الاطلاع المخول للإدارات الضريبية على الخصوص، بأنه سلطة منحها لها المشرع بغية التحقق من إعمال أحكام التشريعات الضريبية[50].

فالغاية منه هي تمكين تلك الإدارة من التعرف على وعاء الضريبة وعناصره المختلفة، ابتغاء تحقيق العدالة الضريبية، ومحاربة التهرب الضريبي[51].

هذه الاعتبارات تسمو على الاعتبار الذي يقوم عليه السر المهني البنكي الذي تسيطر عليه المصلحة الخاصة والحق في الخصوصية. وعليه فلا يمكن التذرع وراء هذه الاعتبارات الفردية لإخفاء تهرب ضريبي أو أعمال غير مشروعة من شأنها أن تسبب الاغتناء غير المشروع على حساب المصلحة العامة.

ويمكن لإدارة الضرائب أيضا، أن تطلب الاطلاع على السجلات والوثائق التي توجب مسكها القوانين الجاري بها العمل فيما يتعلق بالأشخاص الطبيعيين أو المعنويين الذين يزاولون نشاطا خاضعا للضريبة. وفي جميع الحالات لا يمكن أن يشمل الاطلاع مجموع الملف إذا تعلق الأمر بمهنة حرة تستلزم مزاولتها الحفاظ على السر المهني، وتقديم خدمات ذات طابع قانوني أو ضريبي أو محاسبي[52].

وتقدم المعلومات كتابة، كما يتم تسليم الوثائق مقابل وصل على شكل وثيقة مسلمة لمأموري إدارة الضرائب[53]، وعليه فلا يمكن للأشخاص الخاضعين للضريبة الامتناع عن تقديم الوثائق المطالب بها من طرف الإدارة، فإذا تم الامتناع أو تمت مخالفة إجراءات حق الاطلاع بصفة عامة، فإن القانون يعاقب المخالف وفقا للإجراءات وبالغرامة التهديدية اليومية[54].

وتبعا لذلك فإنه يحق لموظفي إدارة الضرائب المحددين حصرا، الاطلاع على سجلات البنوك تحققا من صحة استيفاء الضريبة. وإذا ما تولد لديهم شك حول صحة هذه السجلات، فإن حق الاطلاع الممنوح لهم يمكنهم من الرجوع إلى كافة دفاتر ومستندات البنوك التي قد تمكن من كشف المخالفات الضريبية.

 وهذا الحق يمكن أن يمارس في المقر الرئيسي للبنك، أو في مراكز الوكالات والفروع، على أن يتم الاطلاع على الوثائق المطلوبة من عقود، ومحررات وملفات وكشوفات حسابية محفوظة في أماكن وجودها[55]، دون أن يحق لأعوان إدارة الضرائب نقلها إلى أماكن أخرى، غير أنه يحق لهم أن ينسخوا ما يرونه ضروريا في أدائهم لمهامهم، أو أن يأخذوا عنها الخلاصات الضرورية[56].

لكن من الناحية الواقعية، فإنه قلما تمارس إدارة الضرائب حق الاطلاع في الأبناك، إلا في حالات ناذرة، عندما يقع شك في إقرار أحد الملزمين. وهنا تمارسه بكثير من الحرص والتحفظ لأن موظفي إدارة الضرائب هم أنفسهم مقيدون بالسر المهني[57].

وهذا الحق يمارس بكيفية دقيقة في بعض التشريعات المقارنة؛ فمثلا في الولايات المتحدة الأمريكية وجد هذا الحق لتفصح البنوك على المعلومات الخاصة بزبنائها والتي تسهل حصول إدارة الضرائب على المعلومات التي تراها ضرورية للسيطرة على حالات التهرب الضريبي وتسهيل إعمال القانون الجبائي وتنفيذه.

   وعليه، يلتزم البنك بتقديم التقارير إلى إدارة الدخل الداخلي حول المعاملات النقدية أو التحويلات الداخلية الكبيرة المتضمنة لأي إيداع أو سحب أو تحويل نقدي أجنبي أو أي دفع أو تحويل خارجي، دون الالتزام بأي مبرر يقتضيه السر المهني البنكي[58].

فالبنك حسب هذا القانون هو أداة لمحاربة التهرب الضريبي وغسيل الأموال والتحويلات المالية الضخمة التي قد تكون نابعة من الاتجار في المخدرات أو الأسلحة.

ويمكن حق الاطلاع-حسب بعض الباحثين- إدارة الضرائب من مراقبة الإقرارات المدلى بها من قبل الملزم، واستعمال الصلاحيات المخولة لها بمقتضى هذا الحق، لتنتهي إلى التأكد من صحة هذه الإقرارات، أو وضع أساس ضريبي متين بناءا على السجلات المتوفرة لدى البنوك دون مواجهتها بالسر المهني البنكي[59].

كما يتمتع مأموري إدارة الضرائب في ظل الممارسة الفرنسية[60] بحق واسع جدا للاستعلام، وممارسة حق الاطلاع في البنوك، ولا يجوز الاحتجاج بالسر المهني البنكي في مواجهتهم.

وإذا كان هذا الحق له جدوى في التشريعات التي تنهج نظام السرية النسبية، فإنه غير معترف به في التشريعات التي تنهج نظام السرية المطلقة، خصوصا التشريع السويسري، واللبناني، والمصري.

ففي سويسرا، لا تلتزم البنوك بإعطاء أية معلومات أو السماح بممارسة حق الاطلاع من قبل السلطات الضريبية، لا في مرحلة فرض الضريبة ولا في مرحلة الجباية، وذلك لأن قوانين السرية البنكية تقر التزام البنوك بعدم الإفشاء في هذه الحالات. ولكن قد تطلب السلطات المختصة بالضرائب من الملزم أن يقدم لها إقرارا من البنك الذي يتعامل معه، عن أمواله الموجودة لديه[61].

وفي لبنان لا يسمح قانون سرية المصارف بإفشاء أي شيء، إلا للسلطات القضائية في دعاوى الإثراء غير المشروع طبقا لما تنص عليه المادة 7 من نفس القانون.

أما المشرع المصري، فكان يسمح بحق الاطلاع في قانونه السابق، لكن مع صدور القانون الجديد رقم 205 لسنة 1990 المتعلق بسرية الحسابات بالبنوك، منع هذا الحق بشكل قاطع، وأعطى للحسابات سريتها وحفظ حرية الشخص وحقه في حماية    حساباته، حيث نص في الفقرة الثانية من المادة الأولى من هذا القانون في إطار حديثه عن الأشخاص الممنوع عليهم الاطلاع على حسابات العملاء، على أنه:" يسري الحظر المنصوص عليه في الفقرة السابقة على جميع الأشخاص والجهات بما في ذلك الجهات التي يخولها القانون سلطة الاطلاع أو الحصول على الأوراق أو البيانات المحظور إفشاء سريتها طبقا لأحكام هذا القانون، ويظل هذا الحظر قائما حتى ولو انتهت العلاقة بين العميل والبنك لأي سبب من الأسباب".

فهذا النص -حسب الأستاذة سميحة القليوبي- جاء بعبارات قاطعة بالنسبة لمن شملهم حظر الاطلاع على الحسابات، حيث منع هذا الحظر جميع الأشخاص والجهات دون تحديد، ولما كان العام يؤخذ على إطلاقه فقد كانت هذه العبارات القاطعة كافية لمنع أي شخص أيا كانت صفته أو طبيعته عاما أو خاصا، أو أية جهة كان مصرحا لها أم لا. ولكن المشرع المصري إمعانا منه في الوضوح قرر أن هذا الحظر يشمل جميع الجهات والهيئات والأشخاص حتى تلك التي كانت لها سلطة الاطلاع أو الحصول على الأوراق أو البيانات كمصلحة الضرائب والنيابة العامة ووحدات الحكم المحلي وإدارات الكسب غير المشروع إلى غير ذلك من الجهات والأشخاص التي كانت القوانين الخاصة تجيز لهم حق الاطلاع[62].

الفقرة الثانية: السر المهني البنكي في مواجهة بنك المغرب.

يعتبر بنك المغرب الجهاز المكلف بمراقبة مؤسسات الائتمان والهيئات المعتبرة في حكمها، إذ أعطى له القانون البنكي مجموعة من الصلاحيات لمراقبتها وزوده بحصانة قانونية تغنيه عما يمكن أن تتذرع  به هذه المؤسسات لعرقلة عمله. حيث نص المشرع على أنه:" زيادة على الحالات المنصوص عليها في القانون، لا يجوز الاحتجاج بالسر المهني على بنك المغرب …"[63].

يستنتج من هذه المادة أن المشرع جعل بنك المغرب من بين الجهات التي لا يمكن للأبناك الاحتجاج بالسر المهني في مواجهتها، نظرا لما يتمتع به من سلطات رقابية على مؤسسات الائتمان، وباعتباره كذلك الجهة الوصية على هذه المؤسسات.

ولتقوية الدور الرقابي لبنك المغرب على مؤسسات الائتمان، خصص المشرع الباب الرابع من القانون المتعلق بمؤسسات الائتمان والهيئات المعتبرة في حكمها، لمراقبة مؤسسات الائتمان. حيث نص على أنه": يعهد إلى بنك المغرب بمراقبة تقيد مؤسسات الائتمان بأحكام هذا القانون والنصوص المتخذة لتطبيقه.

ويتأكد من ملاءمة التنظيم الإداري والمحاسبي ونظام المراقبة الداخلية للمؤسسات المذكورة ويسهر على جودة وضعيتها المالية.

وفي هذا الإطار يؤهل بنك المغرب لإجراء مراقبة في عين المكان ومراقبة على وثائق المؤسسات المشار إليها أعلاه بواسطة مأموريه أو أي شخص آخر ينتدبه الوالي لهذا الغرض…"[64].

وما يستفاد من هذه المادة هو أن المشرع مكن بنك المغرب من سلطات واسعة للاطلاع والحصول على كل المعلومات التي تبين الصورة الحقيقية لمؤسسات  الائتمان وذلك بمراقبة الوثائق المحاسبية والقوائم التركيبية، بواسطة مفتشين مفوضين لذلك، والذين لا يتحملون أية مسؤولية مدنية شخصية بسبب مزاولة مهامهم، كما يلتزمون بكتمان السر المهني حسب المادة 79.

وعليه فإذا كان السر المهني البنكي يقوم على اعتبار حماية سرية حسابات الزبناء باعتبارهم دائنين في الالتزام بعدم إفشاء أسرارهم، فإن هذا الاعتبار يصبح مرنا في مواجهة بنك المغرب، باعتباره مكلفا بحماية القطاع البنكي من كل ما يمكن أن يمسه من تلاعبات واختلالات بالنظر لحساسية وحيوية الأنشطة البنكية.

 وهذه الفلسفة تنطوي على حماية الزبناء أنفسهم، لأن حماية القطاع البنكي، فيه حماية لزبناء الأبناك وزيادة الثقة في الائتمان بالاعتماد على معايير الحيطة والحذر[65].

ويمكن لبنك المغرب أن يطلب من الهيئات الخاضعة لمراقبته موافاته بجميع الوثائق والمعلومات اللازمة للقيام بمهمته، والتي يتولى هو نفسه (بنك المغرب) تحديد قائمتها ونموذجها وآجال إرسالها[66].

كما لا يمكن للأبناك أن تحتج بالسر المهني في مواجهة عدة جهات أخرى لها أدوار متعددة في رقابتها، كمراقبي الحسابات الذين توسع مجال تدخلاتهم في القانون الجديد، إذ ألقى عليهم هذا القانون عبء كبيرا، حيث أصبحوا مكلفين بإعداد التقارير التي تبين نتائج قيامهم بمهمتهم المتمثلة في التحقق من صدق المعلومات المقدمة من البنوك إلى الزبناء ومن مطابقتها للحسابات، وعليهم تبليغ هذه التقارير إلى بنك المغرب وإلى أعضاء مجلس الإدارة أو الرقابة لمؤسسة الائتمان المعنية وفق كيفيات يحددها بنك المغرب[67].

ونظرا للدور المهم الذي أصبح يحتله مراقب الحسابات في القانون الجديد، خصص له المشرع المواد من 70 إلى 78، وجعل دوره إلى جانب بنك المغرب في الرقابة كما جعله من بين الجهات التي لا يمكن مواجهتها بالسر المهني، وزيادة في الحرص على توازن المصالح أخضع المشرع المعلومات والوثائق المتبادلة بين بنك المغرب ومراقبي الحسابات لقاعدة كتمان السر المهني، وأعفى مراقب الحسابات من تحمل أية مسؤولية بسبب تبليغ المعلومات إلى بنك المغرب[68].

إضافة إلى هذه الجهات هناك جهات أخرى لا يمكن للبنوك الاحتجاج في مواجهتها بالسر المهني، بل أعفاها المشرع بنص القانون من المسؤولية في حالة الاطلاع على حسابات الزبناء، ما دام الداعي إلى هذا الاطلاع هو هاجس رقابي، وهي على التوالي:

–                     لجنة التنسيق بين أجهزة الرقابة على القطاع المالي.

–                     المجلس الوطني للائتمان والادخار.

–                     لجنة مؤسسات الائتمان.

–                     اللجنة التأديبية لمؤسسات الائتمان[69].

ما يمكن استنتاجه من القانون المتعلق بمؤسسات الائتمان والهيئات المعتبرة في حكمها الجديد، هو أنه عزز إلى حد كبير من صلاحيات واستقلالية بنك المغرب في مجال الإشراف والمراقبة، حيث فوض له منح رخصة الممارسة- التي كانت بيد وزير المالية في القانون القديم- وكذا سن النظام المحاسبي والقواعد الاحتراسية، بالإضافة إلى تدبير المشاكل التي قد تواجه مؤسسات الائتمان، كما تم وضع قاعدة للتشاور وتبادل الرأي بين بنك المغرب ومراقبي الحسابات الذين توسع ميدان تدخلاتهم.

   ومن أجل تعزيز ميدان رقابة المجموعات البنكية، تم تعيين لجنة تنسيق تضم جميع هيئات المراقبة بالقطاع المالي[70].

فهذه الصلاحيات الجديدة، عززها المشرع بوضع آليات قانونية تمكن الجهات الرقابية من القيام بدورها على أحسن وجه، دون عرقلته بدواعي فردية تتمثل في السر المهني البنكي، ما دام الهم الوحيد لهذه الجهات هو حماية القطاع البنكي من كل الشوائب.

الفقرة الثالثة: السر المهني البنكي في مواجهة السلطة القضائية العاملة في إطار مسطرة جنائية.

تعتبر الجهات القضائية العاملة في إطار مسطرة جنائية، من بين الجهات التي لا يمكن للأبناك مواجهتها بالسر المهني البنكي، طبقا للمادة 80 من القانون المتعلق بمؤسسات الائتمان والهيئات المعتبرة في حكمها، عندما يتعلق الأمر بمسطرة جنائية تتطلب الكشف عن تفاصيل العمليات البنكية الخاصة بزبون ما. نذكر كمثال على ذلك جريمة إصدار الشيك بدون رصيد، إذ في هذه الحالة يتم الاستعانة بشهادة البنك في عدم الأداء لإقامة أركان الجريمة.

كما أن ضرورة البحث عن الحقيقة في جريمة ما، أعطت لقاضي التحقيق القيام بجميع إجراءات التحقيق التي يراها صالحة للكشف عن الحقيقة[71]. وإذا تعذر عليه القيام شخصيا ببعض إجراءات التحقيق، جاز له بصفة استثنائية أن يكلف عن طريق إنابة قضائية ضابطا للشرطة القضائية لتنفيذ هذه الإجراءات ضمن الشروط المحددة مع مراعاة التحفظات المنصوص عليها في القانون[72].

وعليه، يكون لقاضي التحقيق الحق في ممارسة التفتيش لدى مؤسسات البنوك، وحجز كل وثيقة أو سند تكون له فائدة في الجريمة موضوع البحث، ولا يمكن للبنك التذرع في مواجهته بالسر المهني البنكي.

وفي هذا الاتجاه تسير أغلب تشريعات الدول الحديثة التي تنهج نظام السرية النسبية، حيث تغلب المصلحة العامة في الوصول إلى الحقيقة، فلا يجوز للشخص أن يحتمي وراء السر المهني البنكي للهروب من هذا الدور المساعد للعدالة الجنائية.

ففي القانون الفرنسي لا يسمح للبنكي بأن يمتنع عن أداء الشهادة بمناسبة دعوى جنائية، بزعم أنه لا يستطيع الكشف عن تفاصيل العمليات البنكية الخاصة بزبنائه، أيا كانت المصلحة التي يعلقها هؤلاء على صيانة أسرارهم حتى لا يعوق ذلك عمل السلطات القضائية[73].

كما أن القانون البلجيكي، يتجه إلى إخضاع البنوك للطلبات الصادرة عن قضاة التحقيق، ووكلاء النيابة، والمحققين العسكريين، وكذا أعضاء الشرطة القضائية العاملة في إطار إجراءات جنائية[74].

أما في حالة نشوء دعوى بين البنك وزبونه تتعلق بمعاملة بنكية، فإن البنك يعفى من الالتزام بالسر المهني في هذه الحالة، بشرط ألا يتناول الإعفاء سوى العملية التي تكون محل النزاع، والعمليات التي تتلازم معها دون العمليات الأخرى، ولا يجوز إفشاء السر إلا أمام المحكمة أو الهيئة التحكيمية المعروض عليها النزاع[75].

ويمكن في ظل هذه الحالة أن تأمر المحكمة أثناء الدعوى إما تلقائيا أو بناء على طلب أحد الأطراف بتقديم الوثائق المحاسبية أو بالاطلاع عليها، باعتبار البنك تاجرا ويخضع للالتزامات المحاسبية الواجب على التجار التقيد بها[76]. وعليه فإن البنك يلتزم بتقديم الكشوفات الحسابية لإثبات حقه في هذا النزاع.

والاستثناء على السر المهني البنكي في هذه الحالة، وضع تأمينا لممارسة حقوق وحرية الدفاع، إذ لولاه لما تمكن البنك من إثبات حقوقه ولأصبح السر البنكي حاجزا يقف في وجه تحقيق العدالة[77]. أما إذا لم يكن البنك طرفا في النزاع، تجاريا كان أم مدنيا فإنه حسب البعض[78]، لا يجوز له أن يدلي بأسرار زبونه أمام المحكمة، إلا إذا أذن له الزبون بذلك.

أما بالنسبة للتشريعات التي تنهج نظام السرية المطلقة حيث تقوم على مبدأ الاحترام المطلق لواجب السر المهني البنكي من طرف البنوك؛ ففي هذا الاتجاه يذهب المشرع اللبناني في المادة 2 من قانون سرية الحسابات البنكية، حيث يوجب على البنك حفظ السر تجاه السلطة القضائية، وأن يرفض الأدلاء بشهادته سواء أمام القضاء الجنائي أم القضاء المدني، كما أن الأحكام القانونية المطبقة على رفض الشهادة لا تطبق على البنك في هذه الحالة[79].

ولا يستثنى من هذا المبدأ إلا حالة نشوء دعوى تتعلق بمعاملة مصرفية بين المصرف وأحد زبنائه، أو حالة الطلبات التي توجهها السلطات القضائية ويكون موضوعها دعاوى الإثراء غير المشروع[80].

وفي هذا السياق أيضا يسير المشرع السويسري، حيث يمنع قانون البنوك وصناديق الادخار  في المادة 47 على البنوك إفشاء السر تحت طائلة العقاب الجنائي، وبذلك يمنع على البنوك في حالة استجوابها سواء بصفة متهم أم شاهد أن تدلي بمعلومات خاضعة للسر المهني البنكي أمام القضاء.

    يستخلص مما سبق أن المشرع في كل هذه الحالات، رجح كفة المصلحة العامة على واجب الالتزام بالسر المهني البنكي، وبذلك أعفى البنوك من المسؤولية بناء على نصوص قانونية عن إفشاء أسرار زبنائها، الشيء الذي نفى عن فعل الإفشاء صفة الخطأ المعاقب عليه، استثناء على مبدأ الالتزام بالسر المهني البنكي.

وإذا كان هذا الإعفاء من المسؤولية ممكنا بموجب نصوص قانونية، فإنه ممكن كذلك بموجب الاتفاق.

المطلب الثاني: حالات الإعفاء بموجب الاتفاق

إذا كانت الغاية المرجوة من الالتزام بالسر المهني البنكي هي حماية حقوق الزبون فإن هذا الأخير من حقه أن يتنازل عن هذه الحماية إذا قدر أن ذلك في مصلحته(الفقرة الأولى)، كما يمكن ممارسة هذا الحق من قبل مجموعة من الأشخاص يقومون مقام الزبون في إدارة شؤونه(الفقرة الثانية).







الفقرة الأولى: رضا الزبون بإفشاء أسراره.

 الأصل في إفشاء أسرار الزبون، أنه خطأ يستوجب التعويض إذا لحق هذا الأخير ضرر، لكن رضاه بوقوع هذا الضرر ينفي عن الفعل صفة الخطأ ويجعله مشروعا[81].

ومن أبرز الصور العملية التي تؤكد هذا الرضا، أن يطلب الزبون التاجر من البنك إعطاء تفاصيل عن حسابه ومعاملاته مع البنك إلى المحاسب الذي يقوم بإعداد الميزانية السنوية له، أو أن تطلب شركة المساهمة في شخص ممثلها القانوني من البنك تقديم المعلومات التي يطلبها مراقبو حساباتها[82].

ففي هذه الأمثلة يتضح أن رضاء الزبون بإفشاء البنك لأسراره، يترتب عليه إعفاء المؤسسة البنكية من المسؤولية.

لكن هذا الإعفاء من المسؤولية بموجب رضا الزبون بإفشاء أسراره، يعرف أوجه مع الاتجاه الذي يتخذ نظرية العقد كأساس للالتزام بالسر المهني البنكي[83]، فهذا الاتجاه يذهب إلى القول بإمكانية رفع صفة السر المهني البنكي بإرادة الأطراف ما دام هذا السر قد أنشئ بموجب هذه الإرادة، بيد أنه يشترط وقوع الرضا من الطرفين حتى يمكن إضفاء صفة الشرعية عن فعل الإفشاء. أما إذا تم الإفشاء بمبادرة من البنك وحده فإنه لا يعفى من هذا الالتزام ، وبالتالي يقع تحت طائلة العقوبة[84].

ويذهب البعض[85] إلى أن رضا الزبون بإفشاء أسراره، قد يكون صريحا وقد يكون ضمنيا ولكنه لا يفترض. وعليه فإذا كتب الزبون على مراسلاته أسماء البنوك التي يتعامل معها، فإن ذلك لا يجب أن يؤخذ على أنه رضا ضمنيا منه بأن يعطي البنك شيئا من أسراره. ولا يلزم أن يكون رضا الزبون كتابة، بل يكفي أن يكون شفويا، ويتحمل البنك عبء إثبات الرضا لكي ينفي به خطأه، لذلك يستحسن ألا يكتفي البنك بالرضا الشفوي من الزبون، بل يجب أن يحصل على هذا الرضا كتابة، وهذا ما كرسته بعض التشريعات في قوانينها المتعلقة بالسرية البنكية، حيث اشترطت الإذن الكتابي من الزبون ليتم رفع السر.

فقد نص المشرع اللبناني على عدم جواز إفشاء ما يعرفه مستخدمو البنك عن أسماء الزبائن وأموالهم والأمور المتعلقة بهم لأي شخص فردا كان أو سلطة عامة إدارية أو عسكرية أو قضائية:" إلا إذا أذن لهم بذلك خطيا صاحب الشأن أو ورثته أو الموصى لهم، أو إذا أعلن إفلاسه، أو إذا نشأت دعوى تتعلق بمعاملة مصرفية بين المصارف وزبنائها"[86]. كما أجاز المشرع اللبناني أيضا، أن يكون الاتفاق على إعطاء الإذن مسبقا، وفي هذه الحالة لا يجوز الرجوع عن هذا الإذن إلا بموافقة جميع المتعاقدين[87].

ونفس هذا المسلك سار عليه المشرع السوري في قانونه الخاص بالسرية المصرفية  حيث نص على أنه:" لا تعلن هوية صاحب الحساب المرقم، أو الخزانة الحديدية وقيمة حساباته أو موجوداته إلا بإذن خطي من المودع أو من ورثته…"[88]. كما يجوز الاتفاق مسبقا كتابة، أمام إدارة المصرف على إعطاء الإذن برفع السرية البنكية في ظل هذا القانون، ولا يجوز الرجوع عن هذا الإذن إلا بموافقة كل الأط

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق