الأربعاء، 4 أبريل 2018

المسؤولية عن إفشاء السر المهني البنكي الفصل الثاني


الفصل الثاني من..
المسؤولية عن إفشاء السر المهني البنكي
الفصل الثاني: الجزاءات الناتجة عن إفشاء السر المهني البنكي.
تعطي الجزاءات المقررة لخرق الالتزام بالسر المهني البنكي قوته القانونية وتضمن له الاحترام اللازم.
وتتمثل هذه الجزاءات في المسؤولية الجنائية التي تعاقب على ارتكاب جريمة إفشاء السر المهني البنكي المنصوص عليها وعلى عقوبتها في القانون الجنائي ضمن باقي الأسرار المهنية الأخرى (الفرع الأول)، أو في المسؤولية المدنية التي تعطي الحق لكل من تضرر من فعل غير مشروع – ناتج إما عن الإخلال بالتزام عقدي أو بالتزام قانوني- بالمطالبة بتعويض هذا الضرر الحاصل له (الفرع الثاني).

إضافة إلى المسؤولية التأديبية[135]، التي تقررها قواعد المهنة البنكية على كل مؤسسة ائتمان أخلت بهذه القواعد والأعراف البنكية.
الفرع الأول: المسؤولية الجنائية.

تنعقد المسؤولية الجنائية عن إفشاء السر المهني البنكي المحال عليها بالمادة 79 من القانون المتعلق بمؤسسات الائتمان والهيئات المعتبرة في حكمها، بإتيان أركان هذه الجريمة (المبحث الأول) ليفتح المجال لتطبيق العقوبات المقررة لها (المبحث الثاني).

المبحث الأول: أركان جريمة إفشاء السر المهني البنكي
ألزم المشرع المغربي، في المادة 79 من القانون المتعلق بمؤسسات الائتمان والهيئات المعتبرة في حكمها، مجموعة من الأشخاص، بكتمان السر المهني تحت طائلة العقوبات المنصوص عليها في الفصل 446 من القانون الجنائي المغربي.

وبالرجوع إلى الفصل 446 من القانون الجنائي المغربي[136]، يتضح من صياغته أنه لتحقق جريمة إفشاء الأسرار يجب توافر ثلاثة أركان، ركن مادي، وركن معنوي، إضافة إلى صفة الفاعل.

المطلب الأول: الركن المادي
عبر المشرع على الركن المادي لهذه الجريمة، في الفصل 446[137] من القانون الجنائي، عند ما عدد الأشخاص الملزمين بعدم إفشاء الأسرار التي يطلعون عليها بحكم مهنتهم أو وظيفتهم، بقوله "… إذا أفشى سرا أودع لديه…" ويستفاد من هذه العبارة أن هذا الركن يتضمن عنصرين، عنصر السر (الفقرة الأولى) وعنصر الإفشاء (الفقرة الثانية).
الفقرة الأولى: عنصر السر

إذا كان المشرع المغربي- كغيره من التشريعات المقارنة- لم يعرف السر المهني ولم يحدد متى وفي أي الحالات يكون الأمر سرا[138]، فإن هذا لمن حسن السياسة التشريعية، لأن المشرع لو أراد هذا لما استطاع صياغة تعريف جامع مانع للسر المهني، فتحديد السر مسألة تختلف باختلاف الظروف. إلا أن هذه الحقيقة لم تمنع الفقهاء من محاولة الوصول إلى تعريف للسر المهني، ووضع المعايير التي تحدد عناصره وخصائصه ونطاقه بما يميزه عن غيره من الأسرار العامة أو أسرار الدولة[139].

وعن ماهية السر فيما نحن بصدده يتجه الرأي الغالب[140] إلى أنه يجب لاعتبار واقعة ما سرا أن تكون مما لا يعتبر أمرا معروفا أو ظاهرا، أو شائعا للكافة، وأن المعلومات السرية هي فقط المعلومات المحددة كأرصدة الحسابات ومواعيد استحقاق الديون وأرقام المركز المالي لزبون البنك، أما مجرد رأي البنك وفقا للشائع عن عمل في السوق، وكذا الرأي القائم على أسس موضوعية عامة، يمكن الوقوف عليها من جهات أخرى غير البنك، فإنها لا تعتبر من الأسرار.

وهناك رأي آخر أكثر تشددا حول المقصود بالسر المهني البنكي، يعتبره كل أمر أو واقعة تصل إلى علم البنك سواء بمناسبة نشاطه أو بسبب هذا النشاط، وسواء أفضى بها العميل نفسه أو علم بها البنك من الغير شريطة أن يكون لهذا العميل مصلحة في كتمانها، بمعنى أن تكون المعلومات المعطاة من البنك عن عميله مما يطمئن الغير عن مركز العميل المالي أو من شأن هذه المعلومات أن تخلق نوعا من التخوف في التعامل معه أو الثقة فيه[141].

ما يمكن استنتاجه-حسب بعض الباحثين- وعلى ضوء الآراء الفقهية السالفة هو أن السر المهني البنكي في النظام المغربي لا يعدو أن يكون غير جميع المعلومات والعمليات التي سلمها الزبون للبنك، أو التي أجراها معه، أو تلك التي علم بها البنك بمناسبة نشاطه وللزبون مصلحة مشروعة في إخفائها، وأن إفشاءها  سيهدد لا محالة سمعة الزبون، أو مركزه المالي داخل السوق، مما يفرض على البنك الالتزام بالحيطة في التعامل مع جميع العمليات والمعلومات المتعلقة بالزبون بصفته مؤتمنا على سر الغير، مع مراعاة الحدود التي نص عليها القانون، أو ما يجري التعامل به عرفيا داخل الأبناك،.

فالسر المهني البنكي إذن التزام سلبي يقع على عاتق البنوك قوامه الامتناع عن إفشاء أسرار زبنائها[142].

الفقرة الثانية: عنصر الإفشاء.

يتمثل الفعل المادي هنا في إفشاء نبأ يعد لدى صاحبه سرا، أي يهمه كتمانه، وإفشاء السر إلى الغير قد يكون بالقول أو بالكتابة أو بالإشارة.

وقد يتحقق ذلك بنشره علنا في جريدة، أو التحدث به في محاضرة، أو بين الناس، أو التصريح به أو بجزء منه ولو إلى شخص واحد فقط[143].

وقد استقر الرأي على أن جريمة إفشاء السر المهني البنكي، تقع ولو انصب الإفشاء على واقعة معروفة ولو لم تكن ذات شهرة عامة، لأن هذا الإفشاء يضفي على الواقعة تأكيدا لم يكن لها من قبل[144]. وإن ذهب بعض الباحثين عكس ذلك بالقول أن جريمة الإفشاء لا تقع بالنسبة للوقائع المعروفة[145].

كما أن الواقعة الوحيدة قد تكون محلا لجريمة الإفشاء عدة مرات إذا ما تكرر فعل الإفشاء، لأن البوح بالسر مرة واحدة أو عدة مرات لا يزيل عنه صفة السر أمام الغير.

وتطبيقا لذلك قضت محكمة أمن الدولة العليا المصرية بأن إفشاء السر مرة لا يمنع من العقاب على إفشائه مرة أخرى، لأن تكرار الإفشاء يزيد الإلمام به، كما أن سبق إفشاء السر لا يرفع عنه صفته، ذلك أن إفشاء السر مرة لا يحول دون تبليغه مرة أخرى لغير من أفشي إليهم، حتى ولو فقد السر أهميته أو فائدته بعضها أو كلها، فلا يؤثر ذلك على مسؤولية من يفشيه[146].

وما ينبغي الإشارة إليه أنه يجب أن يحتوي الإفشاء على قدر أدنى من المعلومات الدقيقة التي تسمح بالاطلاع على السر، وسواء تضمن الإفشاء معلومات عامة أو دقيقة، فإن جريمة الإفشاء تتحقق متى تم اطلاع الغير على معلومات تسمح بالتوصل إلى السر بطريقة غير مباشرة، لأن النص القانوني ورد مطلقا لا تخصيص فيه، فالمشرع لم يشترط وسيلة معينة، بل قصد تجريم كل ما من شأنه توصيل السر إلى من ليست له الصفة للعلم به[147].

وإذا تم كشف السر بأية طريقة، فهل يمكن الحديث عن تحقق جريمة إفشاء الأسرار، أم أن الأمر يتطلب توافر القصد الجنائي؟.

المطلب الثاني: الركن المعنوي
لم ينص المشرع في الفصل 446 من القانون الجنائي، صراحة على القصد الجنائي، كشرط لقيام جريمة إفشاء الأسرار عموما، وعلى الرغم من ذلك، فإن الركن المعنوي يعتبر شرطا ضروريا لقيام هذه الجريمة، إذ أن ذلك ما يقتضيه تطبيق القواعد العامة للقانون الجنائي، التي تقضي بأن الأصل في الجرائم أن تكون عمدية، والاستثناء أن تكون غير عمدية، وما جريمة إفشاء السر المهني البنكي إلا جريمة من جرائم إفشاء الأسرار عموما، تتطلب هي الأخرى توافر القصد الجنائي لدى الفاعل.

وفي إطار التشريعات المقارنة[148]، فإن جريمة إفشاء السر المصرفي عمدية، ومن ثم يتخذ ركنها المعنوي صورة " القصد"، فيجب أن يتوافر قصد الجاني وعدم العقاب على هذه الجريمة معروف عموما عندما تكون النتيجة قد حدثت بإهمال أو عدم احتراز[149].

لكن في سويسرا يعتبر الإهمال وحده كافيا لتجريم الإفشاء، رغبة من المشرع السويسري، في إظهار جسامة النتائج التي تحصل من انتهاك السرية المصرفية، وإبراز الرغبة في الاستقلال عن القوانين الوضعية الأجنبية كافة. ومثل ذلك الإهمال أن يترك مستخدم البنك مستندات بنكية لدى شخص من الغير، أو إعطاء معلومات بدون التدقيق في هوية من يطلبها، أو أي خطأ في إرسال الكشوفات الحسابية[150].

وعليه فالركن المعنوي يتحقق إذا ما أقدم المتهم على إفشاء السر الذي علم به عن طريق مهنته أو بمناسبتها عمدا، أما إذا تم ذلك بشكل غير عمدي، فإنه غير معاقب عليه. لكن هل يلزم بجوار هذا القصد العام[151] توافر القصد الخاص؟

الذي يتطلب أن تتوافر لدى الفاعل نية الإضرار بالزبون[152]، فهل يلزم أن تتجه إرادة الفاعل نحو إفشاء أسرار الزبون بقصد الأضرار به؟

تكتفي بعض القوانين بتوافر القصد الجنائي العام[153]، فيكفي أن يكون المفشي عالما أنه يفشي سرا لم يفض إليه أو يصل إلى علمه إلا عن طريق وظيفته أو مهنته، ولا يلزم أن يكون الإفشاء بنية الإضرار أو بقصد الحصول على ربح غير مشروع[154].

كما أن الآراء الفقهية تذهب في هذا الاتجاه، حيث تعتبر أن جريمة إفشاء السر المهني البنكي تقوم بمجرد توفر القصد العام دون القصد الخاص، المتمثل في نية الإضرار بالزبون الذي تم إفشاء أسراره[155].

ويبقى للقضاء حرية تقدير وجود القصد الجنائي من عدمه، انطلاقا مما  يطرح عليه من ظروف ووقائع في الدعوى، ويجب أن يبني تقديره على أسباب مقبولة، حتى لا يتعرض حكمه للطعن من قبل المحكمة أعلى درجة.

لكن هل يعتد بالباعث في القصد الجنائي؟

لا يعتد بالباعث متى توفر القصد الجنائي على الوجه السالف بيانه، فلا عبرة بالبواعث، لأن جريمة إفشاء الأسرار تخضع للقاعدة العامة التي تقضي بأن البواعث ليست من عناصر القصد الجنائي[156].

المطلب الثالث: صفة الفاعل
يعتبر ركن صفة الفاعل مهما في جريمة إفشاء الأسرار عموما، إذ لا يرتكب هذه الجريمة أي شخص  بل شخص ذو صفة معينة،و هذه الصفة مستمدة من نوع المهنة التي يمارسها أي أنها صفة مهنية. والعلة في تطلب هذا الركن أن القانون يعاقب على إفشاء السر صيانة لمصالح الأفراد حين يلجأون إلى أصحاب المهن و الوظائف طالبين خدماتهم فيضطرون إلى الإفضاء إليهم ببعض الأمور أو يودعون لديهم أسرارا، فسر المهنة يرتبط ارتباطا وثيقا بصفة الأمين الضروري وهو الشخص الذي يجد الناس أنفسهم مضطرين إلى اللجوء إليه من أجل مهنته[157].

وجريمة إفشاء السر المهني البنكي هي الأخرى من جرائم ذوي الصفة الخاصة[158]،    وهذه الصفة تستفاد من الفصل 446 من القانون الجنائي، الذي أورد في صياغته أن "كل شخص يعتبر من الأمناء على الأسرار بحكم مهنته أو وظيفته الدائمة أو المؤقتة"، وعليه فصفة الأمين على السر تستمد من المهنة أو الوظيفة التي تمكن صاحبها من معرفة الأسرار.

والسر المهني البنكي ينبغي أن يفهم منه أمران:

–               أن يعرف هذا السر أثناء مزاولة النشاط البنكي.

–               أن تكون له علاقة بالمهنة البنكية نفسها[159].

ويضيف الفقيه ريمون فرحات أنه لا يكفي أن تكون الوقائع المفشاة سرا، بل يجب أن تكون زيادة على ذلك وثيقة الصلة بممارسة المهنة البنكية مما يخرج عنها المعلومات التي عرفها البنكي خارج إطار علاقات الأعمال التي تربطه بالزبون سواء بصفته كصديق أو قريب له[160].

وبالتالي فإن الإفشاء الذي يكون خارج إطار المهنة البنكية وغير مرتبط بها، لا يشكل جنحة إفشاء السر المهني البنكي المعاقب عليها، بل لا يعتبر سرا بنكيا.

ولا يعتد في تحديد صفة الفاعل بوقت الإفشاء، بل وقت معرفة السر، لأن المتهم بعد تركه لوظيفته داخل البنك قد يفشي السر الذي علم به أثناء ممارسته لعمله، وبالتالي تتوافر فيه صفة الفاعل، أما إذا علم بالسر الذي أفشاه بعد ترك وظيفته فإن تلك الصفة تعتبر غير متوافرة، وبالتالي لا وجود لجريمة إفشاء الأسرار[161].

وعليه تبقى صفة الفاعل ركن لازم أو شرط ضروري لقيام الجريمة، حيث إن جوهر الجريمة هو إخلال بالتزام ناشئ عن المهنة، وما يتفرع عنها من واجبات أهمها الإخلاص في حماية مصالح الزبون وعدم إفشاء أسراره، بالإضافة إلى أن علة التجريم هي الحفاظ على المصلحة الاقتصادية العامة، والسير السليم والمنتظم لمهن معينة ذات أهمية اقتصادية واجتماعية مهمة وتدعيم الثقة فيها لجلب الزبناء.

لكن إذا كان القانون الجنائي في الفصل 446 منه قد ألزم أشخاصا معينين بصفتهم أمناء على الأسرار، بكتمان هذا السر وعدم إفشائه، فهل يمكن أن يمتد هذا الالتزام إلى المشارك في جريمة الإفشاء؟

يذهب بعض الفقه[162] إلى أن الشريك، كالفاعل الأصلي في جريمة إفشاء الأسرار ولو لم يحمل الصفة التي تطلبها القانون في الفاعل الأصلي شريطة توفر جميع عناصر المشاركة حسب القواعد العامة للقانون الجنائي[163]. هذا ما أكدته غرفة الجنايات بمحكمة النقض الفرنسية في قرار لها بتاريخ 22 فبراير 1938 حيث أدانت شخصا غير ملزم  بالسرية المهنية بجريمة المشاركة في انتهاك هذه السرية[164].

وعليه يعاقب المشارك بنفس العقوبة التي نص عليها القانون في معاقبة الفاعل الأصلي[165].



المبحث الثاني: جزاء جريمة إفشاء السر المهني البنكي.

بعد مناقشة أركان جريمة إفشاء السر المهني البنكي في المبحث السابق، والتأكد من وجودها، تطرح أسئلة وجيهة حول من له الحق في تحريك الدعوى العمومية، هل النيابة العامة أم المتضرر صاحب المصلحة؟ وهل هذه الجنحة من الجنح التي تتم فيها المتابعة بصفة تلقائية من طرف ضباط الشرطة القضائية، أم أن الأمر يتعلق بجنحة تتوقف على ضرورة تقديم شكاية في الموضوع من طرف المتضرر؟ وما هي الكيفية التي يمكن أن تطبق بها العقوبة المقررة في الفصل 446 من القانون الجنائي؟ وهل هذه الجنحة تخضع للتقادم العادي أم لها مدة تقادم خاصة بها؟

المطلب الأول: تحريك الدعوى العمومية.

هناك اختلاف بين بعض الباحثين، حول مدى توقف المتابعة في جريمة إفشاء السر المهني البنكي، على تقديم شكاية في الموضوع من قبل المتضرر، أم أن النيابة العامة تحرك المتابعة من تلقاء نفسها دون توقف ذلك على شكاية، خصوصا مع غموض النصوص التشريعية المغربية عكس بعض التشريعات المقارنة.

إذ يرى أحدهم أنه لا مانع من إثارة الدعوى العمومية بصفة تلقائية بمجرد ملاحظتها دون توقف ذلك على تقديم شكاية في الموضوع، لأن الأمر يتعلق بجريمة معاقب عليها جنائيا بصفة محددة[166].

لكن يذهب الطرف الآخر عكس هذا التوجه ويعتبر أن الأمر يتعلق بمصلحة خاصة للزبون، وهو الذي يتوفر على أحقية تقدير هل ما تم إفشاؤه يضر بمصالحه أم لا[167]. وبالتالي فهو الوحيد صاحب الحق في إثارة الدعوى، مما يتوقف على تقديم شكاية من قبله إلى النيابة العامة.

وفي إطار التشريعات المقارنة، خصوصا القانون السويسري، نجد أنه لم يحسم في الأمر، إذ يتبنى موقفا يظهر بعض التردد، فالفصل 321 من القانون الجنائي لسنة 1932 الذي يتعلق بجريمة إفشاء السر المهني بشكل عام، ينص على أن هذه الجنحة لا تتم فيها المتابعة إلا بشكاية.

وهذا الحل لم يتم ذكره في مقتضيات الفصل 47 من قانون البنوك و صناديق الادخار لسنة 1934 الذي يظهر خصوصية نظام السر المهني البنكي[168].

أما في بلجيكا وفرنسا واللوكسمبورغ، فإن سيطرة المصالح الفردية للزبون جعلت له وحده حق تحريك المتابعة ضد البنك الذي أضر بمصالحه عن طريق إفشاء السر الذي أودعه لديه. غير أن قانون العقوبات الإيطالي استلزم صراحة في المادة 622 تقديم شكاية من المجني عليه إذا لحقه ضرر من جراء إفشاء أسراره المهنية[169].

 ويذهب القانون اللبناني في نفس الاتجاه، لكن بشكل من القطيعة، حيث ينص في المادة الثامنة من قانون سرية المصارف لسنة 1956 على أن الدعوى العمومية لا تحرك إلا بطلب من الطرف المتضرر، أي تستوجب تقديم شكاية من الطرف المعني بالأمر وإلا سقطت المتابعة.

ونفس المسلك، نهجه المشرع السوري في مادته الثامنة من قانون السرية المصرفية السوري رقم 29/2001، حيث نص على أنه لا يمكن تحريك الدعوى العمومية في حال خرق السرية المصرفية إلا بناء على شكاية من المتضرر[170].

وتوقف تحريك الدعوى العمومية على تقديم شكاية في الموضوع من قبل المتضرر، جاء حسب الأستاذ فرحات ريمون أكثر انسجاما مع روح نظام السر المهني البنكي[171].

لكن إذا ما قام الزبون المتضرر بتقديم شكاية للنيابة العامة، فضد من ستقدم هذه الشكاية. وكيف يمكن الوصول إلى تطبيق العقوبات الجنائية؟

المطلب الثاني: الجزاء الجنائي.

عاقب الفصل 446 من القانون الجنائي المغربي، مرتكب جريمة إفشاء السر المهني البنكي، ضمن عقوبة إفشاء الأسرار بصفة عامة، وذلك بنصه"… وكل شخص يعتبر من الأمناء على الأسرار، بحكم مهنته أو وظيفته، الدائمة أو المؤقتة، إذا أفشى سرا أودع لديه، وذلك في غير الأحوال التي يجيز له فيها القانون أو يوجب عليه فيها التبليغ عنه، يعاقب بالحبس من شهر إلى ستة أشهر وغرامة من ألف ومائتين إلى عشرين ألف درهم…"

وما يمكن ملاحظته على هذا الفصل، هو أن المشرع جمع بين عقوبة الحبس والغرامة، على عكس ما فعل في مواضيع كثيرة، إذ ترك للقاضي سلطة الاختيار بين الحبس أو الغرامة. وهذا التشدد الذي نؤيده محمود حسب البعض بالنظر إلى الضعف الذي يصيب هذه المؤسسة- أي مؤسسة السر المهني- من جراء الحدود التي تكبلها.[172]

وفي إطار التشريعات المقارنة، جاء قانون العقوبات الفرنسي الجديد لسنة 1994 بنص عام ومطلق يجرم كل إفشاء لسر مهني وهو نص المادة 226-13 منه التي شددت العقوبة على هذه الجنحة لتصبح الحبس سنة والغرامة 100.000 فرنك فرنسي، عوض المادة 378 من قانون العقوبات الفرنسي القديم، التي كانت تنص على عقوبة الحبس الذي لا يقل عن شهر ولا تتجاوز ستة أشهر، والغرامة التي لا تقل عن 500 فرنك فرنسي ولا تتجاوز 15000 فرنك فرنسي. و يتضح من هذا التعديل أن الاتجاه الحديث في فرنسا يميل إلى التشدد في العقاب على هذه الجريمة.

وإذا كان المشرع المغربي ونظيره الفرنسي يجمعان بين عقوبة الحبس والغرامة، فإن ثمة تشريعات تركت للقاضي سلطة الاختيار بين العقوبة الحبسية أو العقوبة المالية. وهذا ما نهجه المشرع الايطالي في المادة 622 من قانون العقوبات الايطالي التي تجرم إفشاء الأسرار المهنية، وهي تنطبق على البنوك حيث تعاقب على إفشاء السر البنكي بالحبس سنة أو الغرامة التي لا تقل عن 1200 ليرة ولا تزيد عن 200.000 ليرة إيطالية[173].

كما أن المشرع المصري ترك الاختيار للقاضي عند تطبيق المادة 310 من قانون العقوبات عند ارتكاب جنحة إفشاء الأسرار المهنية والوظيفية، بين عقوبة الحبس التي لا تزيد على ستة شهور أو الغرامة التي لا تتجاوز خمسمائة جنيه مصري.



غير أن هناك تشريعات نصت على عقوبات خاصة بالسر المهني البنكي في قوانين تعنى بتنظيم هذه المؤسسة بالموازاة مع العقوبات المنصوص عليها في القوانين الجنائية، حيث جعلت من جريمة إفشاء السر المهني البنكي، جريمة خاصة[174].

 ومن القوانين التي يحتذى بها في تنظيم السر المهني البنكي ومعاقبة من لم يلتزم به، نجد القانون السويسري الذي يجعل من نظام السر البنكي نظاما وطيدا يتمتع بحماية أوسع مدى من تلك المقررة للأسرار المهنية الأخرى المشمولة بحماية النص العقابي العام (المادة 321 من قانون العقوبات الفيدرالي السويسري لسنة 1937 )، إضافة إلى المادة 47 من القانون الفيدرالي الخاص بالبنوك وصناديق التوفير لسنة 1934، التي تنص على معاقبة كل من يفشي عمدا سرا مصرفيا بالحبس الذي لا يتجاوز ستة أشهر أو بالغرامة التي لا تتجاوز 50000 فرنك سويسري.[175]

لكن تطبيق هذه العقوبة يطرح مجموعة من الإشكالات المعقدة، حول إمكانية تطبيقها على البنك كشخص معنوي، أم أنها تطبق فقط على الفاعل كشخص طبيعي؟

إن تطبيق العقوبة على البنك كشخص معنوي، تجعلنا نبحث في مدى تقرير المسؤولية الجنائية للشخص المعنوي بصفة عامة، وهذا الإشكال أفرز اتجاهين تشريعيين متناقضين:

الاتجاه الأول: لا يقرر المسؤولية الجنائية للشخص المعنوي.

 يعد القانون البلجيكي أحد أبرز زعماء هذا الاتجاه، إذ لا يفرض مساءلة الأشخاص المعنوية جنائيا، استنادا إلى أن الأشخاص الطبيعية هي وحدها التي تتمتع بالإرادة والتمييز اللازم توافرهما للمسؤولية، وعليه فإنه يستحيل مساءلة ومجازاة الجماعات والهيئات والبنوك[176].

إلا أن ما يلاحظ على هذا القانون، أنه ينكر المسؤولية الجنائية المباشرة للشخص المعنوي فقط، ويقر بالمقابل المسؤولية الجنائية غير المباشرة للأشخاص المعنوية ومنها بداهة البنوك، إذ ينص على أن : " هذه الأشخاص تسأل بالتضامن مع الأشخاص الطبيعيين عن تنفيذ العقوبات التي يقضى بها من غرامة ومصادرة ومصاريف ".

 وينسجم هذا مع نص المادة 20/2 من القانون الصادر في 27 ماي سنة 1960 في شأن الحماية من تعسف السلطة الاقتصادية ويجري حكمها على أن يكون الشخص المعنوي مسؤولا عن دفع الغرامات التي توقع على ممثله. ويمكن أن تصل العقوبة إلى حرمان الشخص المعنوي من مزايا معينة[177].

كما أن العديد من الدول التي تعتنق النظام الاشتراكي كنهج اقتصادي، لا تقرر المسؤولية الجنائية للأشخاص المعنوية الاقتصادية، لاعتبارات سياسية خاصة بهذا النظام.

غير أنه هناك بعض التشريعات العربية التي لا تقرر هي الأخرى المسؤولية الجنائية للأشخاص المعنوية و منها البنوك، حيث لم تضع نصوصا عامة في تشريعاتها الجنائية تسمح بمساءلة الشخص المعنوي جنائيا. ومن هذه الدول نجد المشرع المصري الذي تعمد نفي المسؤولية الجنائية للبنك كشخص معنوي[178]، تطبيقا للمادة 21 من القانون رقم 163 لسنة 1957 بإصدار قانون البنوك والائتمان التي نصت على أنه :" يكون المسؤول عن المخالفة في حالة صدورها عن شركة أو جمعية، الشريك المسؤول أو المدير أو عضو مجلس الإدارة المنتدب أو رئيس مجلس الإدارة، حسب الأحوال". وقد قضت محكمة النقض المصرية بأن الأشخاص المعنوية لا تسأل جنائيا عما يقع عن ممثليها من جرائم أثناء قيامهم بأعمالهم، بل يسأل مرتكب الجريمة شخصيا[179].

ويذهب الفقه المصري في اتجاه عدم جواز المساءلة الجنائية للشخص المعنوي إلا بنص خاص، إذ يتعذر توقيع العقوبات على الشخص المعنوي، كما أنه يصعب تصور القصد الجنائي لهذا الأخير[180].

إلا أنه مع صدور عدة قوانين لها علاقة بالعقوبات الاقتصادية بدأ يميل المشرع المصري نحو السير التدريجي لتقرير المسؤولية الجنائية للشخص المعنوي سواء بشكل مباشر أم غير مباشر.

كما أن المشرع الجزائري، لا يضع قاعدة عامة للمسؤولية الجنائية للبنك كشخص معنوي وإنما يقرر بعض الأحكام في الحالات الاستثنائية التي يصدر بشأنها نصوص خاصة بتوقيع عقوبات جنائية كما يجيز اتخاذ تدابير احترازية أو تدابير الأمن ضد البنك بشرط وجود نص يجرم الأفعال التي يرتكبها البنك.

ومن العقوبات والتدابير التي نص عليها قانون العقوبات الجزائري ما نصت عليه المادة 17 من منع الشخص الاعتباري من ممارسة نشاطه ولو كان تحت اسم آخر، أو مع مديرين أو أعضاء أو مجلس إدارة آخر، ويترتب على ذلك تصفية أمواله مع المحافظة على حقوق الغير حسن النية، وهذا ما نصت عليه المادة 26 من ذات القانون من أنه " ويجوز أن يؤمر بإغلاق المؤسسة نهائيا أو مؤقتا في الحالات وبالشروط المنصوص عليها في القانون "[181].

وفي هذا السياق يذهب القانون التونسي، حيث لم يضع نصوصا عامة بشأن المسؤولية الجنائية للشخص المعنوي في قانون العقوبات التونسي، وإنما اكتفى بنصوص متفرقة تعاقب على الأفعال التي تشكل جرائم والتي قد تصدر من الشخص المعنوي[182].

الاتجاه الثاني:موقف بعض التشريعات الحديثة

أصبحت التشريعات الحديثة تسمح بالمسؤولية الجنائية للشخص المعنوي[183]، فلم يعد هذا النوع من المسؤولية مقصورا على الأشخاص الطبيعيين كما كانت تقضي بذلك القواعد التقليدية.

 ومن التشريعات التي تقيم المسؤولية الجنائية للشخص المعنوي نجد القانون الفرنسي الجديد لسنة 1994، الذي ينص في مادته 121-1 على أن " الأشخاص المعنوية- باستثناء الدولة – مسؤولون جنائيا في الحالات التي ينص عليها القانون أو اللائحة عن الجرائم التي تقع لحسابها من قبل أجهزتها أو الممثلين لها ".

وتتماشى العقوبات التي ينطق بها ضد الشخص المعنوي مع طبيعة هذا الشخص، ومن أهم تلك العقوبات؛ نجد الحل أو  الإغلاق أو حظر ممارسته النشاط[184].

والجدير بالذكر أنه على الرغم من وجود نص بمسؤولية الشخص المعنوي في القواعد العامة لقانون العقوبات الفرنسي، إلا أن تفسير القضاء يجري على أن مسؤولية الشخص المعنوي من الناحية الجنائية لا تقوم إلا بوجود نص خاص في كل حالة على حدة، هذا ما قضت به الغرفة الجنائية في محكمة النقض الفرنسية في قرار لها بتاريخ 18 أبريل 2000[185].وبالتالي فما أوردته المادة 121-1 من قانون العقوبات الفرنسي إذن، ليس إلا إجازة لقيام تلك المسؤولية والتي لم يكن يأخذ بها القانون السابق. وهذا التفسير القضائي في فرنسا يختلف عن مثيله في بلاد أخرى، مثل كندا حيث تتجه المحاكم إلى إعمال المسؤولية الجنائية للشخص المعنوي كمبدأ عام دون شرط إيراده في كل جريمة على حدة[186].

كما أن المشرع السويسري، حدد في قانون البنوك وصناديق التوفير مسؤولية الشخص المعنوي غير المباشرة التي تتمثل في تضامن البنك كشخص معنوي، مع الموظف أو ممثله القانوني المسؤول الذي يعمل باسمه، في أداء الغرامة والمصاريف[187].

وعلى نهج تقرير المسؤولية الجنائية للشخص المعنوي كمبدأ عام سار المشرع اللبناني حيث نص في المادة 21/1 من قانون العقوبات اللبناني على أن: " الهيئات المعنوية مسؤولة جزائيا عن أعمال مديريها وأعضاء إدارتها وممثليها وعمالها عندما يأتون هذه الأعمال باسم الهيئات المذكورة أو بإحدى وسائلها ". والعقوبات التي يمكن أن تطبق في هذه الحالة هي الحل أو الإيقاف أو التصفية حسب المواد 109-110 من قانون العقوبات اللبناني وإذا كانت هذه المادة تقرر كمبدأ عام مسؤولية الشخص المعنوي فإن قانون سرية المصارف اللبناني أقر عقوبات لا يمكن أن تطبق إلا على الشخص الطبيعي، كالحبس مثلا.

كما أن التشريع السوري يذهب على نفس النهج الذي يسير فيه  التشريع اللبناني في تقرير المسؤولية الجنائية للشخص المعنوي.

وإذا كان هذا كل ما يتعلق بالتشريعات المقارنة، فماذا عن موقف تشريعنا المغربي بخصوص مسؤولية الشخص المعنوي؟

     إذا كان بعض الباحثين[188] يرى أنه يصعب القول بالمسؤولية الجنائية للبنك كشخص معنوي، في حالة عدم وجود شخص طبيعي مسؤول عن الإفشاء. فإن الفصل 127 من القانون الجنائي المغربي[189] يقر صراحة بالمسؤولية الجنائية للشخص المعنوي، والذي يمكن أن يكون بنكا، وخص له عقوبات تتلاءم وطبيعته غير المادية التي تتمثل في المصادرة أو الحل أو نشر الحكم الصادر بالإدانة.

ويلزم لقيام المسؤولية الجنائية للشخص المعنوي – السالف بيانها- أن يثبت وقوع الفعل ونسبته إلى شخص معين يمثل هذا الشخص المعنوي، أو يعمل لحساب هذا الشخص، أو يشكل عضوا فيه[190]. ففي هذه الحالة تثبت مسؤولية الفاعل الشخصية وتوقع عليه العقوبة شخصيا، ولا مجال للحديث عن إيقاعها على البنك كشخص معنوي، اللهم إذا كان شريكا في هذا الفعل، وأيا كان مركز هذا الفاعل داخل المؤسسة البنكية بدءا من رئيس مجلس الإدارة مرورا بالمتصرفين والمدراء وصولا إلى أصغر مستخدم داخل البنك حسب ما هو وارد في المادة 79 من القانون المتعلق بمؤسسات الائتمان والهيئات المعتبرة في حكمها.

أما إذا كان الفاعل مجهولا فإن الدعوى العمومية توجه ضد البنك كشخص معنوي، وبالتالي يمكن أن تنعقد مسؤوليته الجنائية إذا توفرت عناصرها. وهذا ما ينسجم مع الفصل 127 من القانون الجنائي المغربي. وأمام هذا التوجه الذي نهجه المشرع المغربي، هل يمكن اعتبار البنك كشخص معنوي مسؤول جنائيا عن جريمة إفشاء الأسرار المهنية في حالة عدم معرفة الفاعل شخصيا؟

بالرجوع إلى النص الجنائي، خصوصا الفصل 446 يسمح بمساءلة البنك جنائيا حيث ينص "… وكل شخص يعتبر من الأمناء على الأسرار…" دون تحديد ما إذا كان الشخص معنويا أو طبيعيا، فالبنك كشخص معنوي يمكن مساءلته كشريك إذا ما ثبت أنه قام بما من شأنه أن يساعد على ارتكاب هذه الجنحة، كما يمكن مساءلته بصفته فاعلا أصليا.[191] لأن البنك ملزم بحماية السر الذي أودعه الزبون لديه، وإلا كان مسؤولا جنائيا عن إفشاءه زيادة على أن الالتزام بالسر المهني البنكي يغلب عليه الطابع الجماعي مما يصعب من مهمة معرفة الشخص الذي قام بالإفشاء، وليس من العدالة عدم تجريم هذا الفعل بدعوى عدم معرفة الشخص الذي قام بالإفشاء[192].

المطلب الثالث: تقادم الدعوى العمومية.

يصنف القانون الجنائي المغربي جريمة إفشاء الأسرار ضمن الجنح، حسب التصنيف الذي أورده في الفصل 111، وتبعا لذلك تتقادم الدعوى العمومية بصدد هذه الجنحة بمرور 5 سنوات ميلادية كاملة تبتدئ من يوم ارتكاب فعل الإفشاء حسب المادة 5 من قانون المسطرة الجنائية المغربية. وفي الحالة التي يتكرر فيها الإفشاء فإن الأجل لا يسري إلا ابتداء من آخر فعل إفشاء[193].

على أن إعمال هذه الأحكام تقتضي مراعاة ملاحظتين:

– في المسؤولية الجنائية التي تقع على البنك كشخص معنوي، فإن وفاة أحد ممثلي البنك لا يوقف الدعوى العمومية التي تتابع ضد الممثل الجديد.

– إن الدعوى العمومية التي تحرك بشكاية من الزبون، لا تنتهي بتنازل هذا الأخير أو استرداد شكايته ما دامت قد وضعت. فالدعوى العمومية تتابع إلى حين البت في القضية بحكم له قوة الشيء المقضى به[194].

وينقطع أمد تقادم الدعوى العمومية بكل إجراء من إجراءات التحقيق أو المتابعة تقوم به السلطة القضائية أو تأمر به. ويسري هذا الانقطاع كذلك بالنسبة للأشخاص الذين لم يشملهم إجراء التحقيق أو المتابعة، ويسري أجل جديد للتقادم ابتداء من تاريخ آخر إجراء انقطع به أمده، وتكون المدة الجديدة مساوية لمدة خمس سنوات، حسب ما هو مكرس في المادة 6 من قانون المسطرة الجنائية المغربية.

وتتوقف مدة تقادم الدعوى العمومية فيما إذا كانت استحالة إقامتها ترجع إلى القانون نفسه. ويستأنف سريان التقادم ابتداء من اليوم الذي ترتفع فيه الاستحالة لمدة تساوي ما بقي من أمده، أي من وقت توقفه.

والمسؤولية الجنائية المترتبة عن جريمة إفشاء السر المهني البنكي لا تنفى إمكانية المساءلة المدنية سواء تحققت هذه الجريمة أم لا، فهي تترتب إذا ما شكل الإفشاء ضررا للزبون.

الفرع الثاني: المسؤولية المدنية.

لا تمنع المسؤولية الجنائية المترتبة عن جريمة إفشاء السر المهني البنكي، من إمكانية المساءلة المدنية التي تعطي الحق لكل من تضرر من خطأ الغير الناتج إما الإخلال بالتزام تعاقدي، أو بالتزام قانوني يمنع هذا الضرر (المبحث الأول) بالمطالبة بتعويض هذا الضرر بعد إثباته (المبحث الثاني).

المبحث الأول: صور المسؤولية المدنية للبنك عن إفشاء السر المهني وأركانها.

تتأسس المسؤولية المدنية بشكل عام، عن كل فعل يرتكبه الشخص ويتولد عنه ضرر للغير يلزم تعويضه. هذا ما تقضي به القواعد العامة الواردة في قانون الالتزامات والعقود، خصوصا الفصلين 77 و78 منه[195].

وعليه تتخذ المسؤولية المدنية صورتين، صورة المسؤولية التقصيرية التي تنشأ عن عمل غير مشروع يخل بالتزام قانوني بعدم الأضرار بالغير حسب ما هو مكرس في الفصلين السابقين(77و78 من ق ل ع)، وصورة المسؤولية العقدية التي تتمثل في الإخلال بالتزام عقدي يختلف باختلاف ما اشتمل عليه العقد من التزامات[196].

فإذا كانت هذه المبادئ تنطبق على المسؤولية المدنية بشكل عام، فهل من انعكاس لصور هذه المسؤولية على التزام البنك بعدم إفشاء السر المهني، خصوصا وأن العمل البنكي وواجب المهنة الأخلاقي يحتمان على الأبناك الالتزام بحفظ أسرار زبنائه، باعتباره أمينا على أسرارهم؟ وما هي الأركان التي تقوم عليها هذه المسؤولية؟.

هذا ما سنجيب عنه من خلال مطلبين:

المطلب الأول: صور المسؤولية المدنية عن إفشاء السر المهني البنكي.

إن صور المسؤولية المدنية التي يمكن أن تترتب عن إفشاء السر المهني البنكي، يمكن أن تكون مسؤولية تقصيرية، أو مسؤولية عقدية. وعليه سنخصص لكل صورة من صور المسؤولية فقرة مستقلة.

الفقرة الأولى: المسؤولية التقصيرية عن إفشاء السر المهني البنكي.

تقوم المسؤولية التقصيرية للبنك إذا لم يوجد عقد بينه وبين الزبون، أو قام بينهما عقد باطل أو تقرر بطلانه، أو كان هناك عقد صحيح ولكن الضرر لم ينشأ من جراء الإخلال بالتزام ناشئ عنه، بل نشأ بسبب الإخلال بالتزام قانوني[197].

هذه القاعدة تنطبق على البنك في حالة إفشائه للسر المهني، عند غياب أي عقد بين البنك وزبونه، بعلة أن أعمال البنوك بطبيعتها سرية[198]، ويجب أن تحاط بالكتمان التام حتى لا تصل لعلم الغير. لهذه الغاية نص القانون على هذا الالتزام حماية للحقوق التي قد يترتب على إفشائها أضرار مادية ومعنوية، طبقا لما استقرت عليه مبادئ المسؤولية المدنية التي تقضي بأن الالتزام واجب قانوني يقوم على أساسه الحق الشخصي[199].

والسند القانوني الذي يحمي حق الزبون في عدم إفشاء السر الذي أودعه لدى البنك، هو المادة 79 من القانون المتعلق بمؤسسات الائتمان والهيئات المعتبرة في حكمها باعتباره نصا خاصا، يلزم جميع الأشخاص الذين يشاركون بأي وجه من الوجوه في إدارة مؤسسة الائتمان أو تسييرها أو تدبيرها بكتمان السر المهني البنكي. وفي حالة ارتكاب خطأ تقصيري نتج عنه إفشاء للسر، في غير الأحوال التي يجوز كشفه فيها، ونتج عنه ضرر للزبون تنعقد مسؤوليته التقصيرية حسب القواعد العامة المنصوص عليها في الفصول 77 و78 من قانون الالتزامات والعقود باعتبارها نصوص عامة للمسؤولية. وكمثال لتحقق المسؤولية التقصيرية أن يرتكب البنك خطأ في مرحلة المفاوضات مع الزبون ثم تنقطع المفاوضات لأي سبب، وبالتالي لا تنشأ علاقة تعاقدية بينهما، بعد أن يكون الزبون قد أفضى للبنك ببعض أسراره خلال المفاوضات[200]. كما يمكن أن يتحقق ذلك أيضا في الحالة التي يكون فيها العقد باطلا لعدم أهلية الزبون. فهذا البطلان يرتب المسؤولية التقصيرية في حالة إفشاء سر اطلع عليه البنك أثناء المفاوضات. كذلك الحالة التي يكون هناك عقد بين البنك وزبونه ثم ينقضي بسبب تنفيذه، فرغم انقضاء العلاقة التعاقدية، فإن البنك يظل ملتزما بحفظ أسرار زبونه بعد انقضاء العقد، وإفشاء السر البنكي يرتب هنا المسؤولية التقصيرية.

كما تتصور المسؤولية التقصيرية للبنك إزاء زبونه في حالة الاعتداء عن طريق دفاع- هذا بطبيعة الحال بعد انقضاء العقد الرابط بينهما- في دعوى يتهم فيها البنك زبونه السابق بتهم غير صحيحة تنطوي على رعونة وتسرع حتى و لو لم يكن البنك سيء النية، أو في حالة إعطاء معلومات غير صحيحة لبنك آخر أو لمؤسسة تمويلية أخرى[201].

كما يمكن تصور المسؤولية التقصيرية في الحالة التي يتم فيها الإفشاء من خارج البنك، أي من طرف الأشخاص الذين خول لهم القانون الاطلاع على السر المهني البنكي كموظفي إدارة الضرائب أو الجمارك، ففي هذه الحالة وفي غياب أي عقد يربط الزبون وهؤلاء الأشخاص فلا مناص من اللجوء إلى القواعد العامة في المسؤولية التقصيرية لمساءلة المتسبب في الضرر[202].

وعموما فإن المسؤولية التقصيرية للبنك عن إفشاء السر المهني البنكي إزاء زبنائه، لا تخرج عن القواعد العامة للمسؤولية التقصيرية، المنصوص عليها في قانون الالتزامات والعقود ( الفصلان 77 و78 )، مع مراعاة خصوصية القانون المتعلق بمؤسسات الائتمان والهيئات المعتبرة في حكمها، باعتبار أن السر المهني البنكي التزام قانوني، وأن كل إخلال به يرتب هذه المسؤولية. كما أن كل اتفاق على الإعفاء من هذه المسؤولية قبل تحقق الضرر يعد باطلا وعديم الأثر[203].





الفقرة الثانية: المسؤولية العقدية للبنك عن إفشاء السر المهني البنكي.

يتعرض البنك للمسؤولية العقدية بشكل عام، إذا أخل بأحد التزاماته الناشئة عن عقد من عقود العمليات البنكية، وترتب من جراء هذا الإخلال ضرر للزبون، أو نفذ العقد تنفيذا سيئا ومخالفا لما استقر عليه العرف البنكي[204].

وعليه فحتى تقوم المسؤولية العقدية للبنك، فلا بد من وجود عقد بين البنك وأحد الزبناء، يتفق فيه الزبون مع البنك على أن يقوم البنك بأداء بعض الخدمات البنكية، وأن يكون ذلك العقد قد توافرت له كافة شروط وجوده وصحته القانونية، وأن يرتكب البنك أثناء تنفيذه لهذا العقد خطأ يترتب عليه ضرر لهذا الزبون[205].

ونشير إلى أنه لا يشترط وجود عقد بين البنك وزبونه بخصوص نوع العمليات الرابطة بينهما، بل يجب أن يتضمن هذا العقد صراحة شرط عدم الإخلال بالسر البنكي للزبون. وخلافا لهذا الرأي ذهب البعض إلى أنه ليس ضروريا وجود شرط صريح ينص على إلزام البنك بعدم إفشاء أسرار الزبون، بل إن هذا الالتزام مفترض في العقود التي يبرمها الزبون مع البنك، بحيث لا تقوم الحاجة إلى النص عليه[206].

ويبدو أن هذا الرأي متأثر إلى حد بعيد بالتشريعات الانجلوأمريكية التي تكتفي بوجود شرط ضمني، وأن العلاقة التعاقدية التي تربط البنك بالزبون وفق هذه التشريعات تتضمن في حد ذاتها شرطا ضمنيا، وبموجب هذا الشرط يلتزم البنك بحفظ الأسرار المعهودة إليه، ويعتبر البنك مسؤولا عن الإخلال بالعقد الضمني.

وهذا يتماشى في نظرنا مع طبيعة العمل البنكي التي يعتبر الحفاظ على الأسرار من مستلزماتها، فدخول الزبون في علاقة تعاقدية مع البنك يقتضي بالضرورة أن يفضي إليه بمعلومات لها صفة السرية، كما أنه ما  كان سيفضي بها إليه لولا وجود هذه العلاقة العقدية بينهما. كما أن هذا الالتزام يعتبر من صميم الأعراف البنكية وواجب المهنة الأخلاقي. وبناء على ما سبق يلتزم البنك بعدم إفشاء سر الزبون، وهو التزام سلبي مصدره العقد أو العرف البنكي، ومن تم يتعرض البنك للمسؤولية العقدية إذا أخل بهذا الالتزام، فيكون مسؤولا مثلا لو أفشى للغير رقم حساب الزبون أو رصيد هذا الحساب أو بيانات بتحركات هذا الحساب وترتب على هذا الإفشاء ضرر للزبون[207]. إلا أنه يمكن للبنك أن يدرأ هذه المسؤولية بأن يثبت أنه أفشى السر بناء على طلب عميله، أو أن الزبون تنازل عند فتح الحساب عن حقه في كتمان سره، أو أنه أفشى السر لوكيل الزبون الذي يمكنه بموجب عقد الوكالة أن يطلع على هذا السر، أو أنه أفشى السر للممثل القانوني- إذا كان الزبون شخصا معنويا- أو يثبت أنه أفشى السر بناء على نص القانون كما في حالة إعطاء بيانات الحساب لموظف الضرائب [208].

وكأمثلة عن أفعال حكم فيها القضاء المقارن باعتبارها أخطاء موجبة لمسؤولية البنك عن إفشاء الأسرار:

– أن يدلي البنك إلى شخص غير صاحب الحساب برصيد هذا الحساب ولو كان يحمل شيكا تقدم إلى البنك لصرف قيمته: ففي قضية   Foster V Bank of London. في انجلترا عام 1862 كان أحد زبناء البنك قد قبل كمبيالة بمبلغ 532 جنيه استرليني للدفع بالبنك. وعندما تقدم الحامل لصرف قيمة الكمبيالة أخبره البنك بأن الرصيد الموجود بالحساب غير كاف، وأنه ينقص عن المطلوب بمقدار 104 جنيه استرليني، فقام حامل الكمبيالة بإيداع مبلغ 104 جنيه في حساب القابل وتقدم بالكمبيالة بعد أن أصبح المبلغ الموجود في الحساب كافيا للوفاء بقيمتها. فدفع إليه البنك قيمتها. وقاضى الزبون (قابل الكمبيالة) البنك لأنه أفشى سرا من أسراره يتعلق بمقدار رصيد حسابه وقضت له المحكمة بالتعويض[209].

وما يمكن استنتاجه من هذا المثال، هو أن القضاء الانجليزي يوسع من حمايته للسر المهني البنكي منذ زمن بعيد، رغم عدم وجود نص خاص في القانون الانجليزي يفرض على البنك الالتزام بالسر البنكي، وتبنى هذه الحماية الواسعة على أساس مبادئ العدالة الطبيعية.

وفي قضية أخرى مشهورة أكد القضاء الانجليزي توجهه السابق المتمثل في أن إبرام أي عقد مع البنك كيفما كان موضوعه يتضمن في طياته شرطا ضمنيا يلزم البنك بعدم إفشاء أسرار الزبون.

ففي قضية تورنيي سنة 1924 الذي كان زبونا لبنك، وصار حسابه مدينا بمبلغ تسعة جنيهات تقريبا. ووقع مستندا يوافق فيه على دفع هذا المبلغ على أقساط أسبوعية، قيمة كل منها جنيها واحدا. وكتب في هذا المستند اسم وعنوان شركة كينيون وشركاؤه التي كان على وشك الالتحاق بها بعقد عمل لمدة ثلاثة أشهر. وعندما  لم يف بدفع القسط الأسبوعي، قام مدير فرع البنك بالاتصال هاتفيا بالشركة. وتلت هذا الاتصال محادثة مع مدير الشركة كشفت عن حقائق الرصيد المدين وعدم وفاء الزبون بوعده           بالدفع.               

  وبالإضافة إلى معلومات أخرى تتعلق بالزبون، رفض مدير الشركة بناء على هذه المعلومات إبرام عقد العمل مع المدعي، فأقام تورنيي دعواه مطالبا البنك بتعويض عن القذف وعن إخلاله بعقد ضمني مؤداه، ألا يفشي البنك إلى الغير حالة حساب الزبون أو أية معاملات متصلة به. فتم قبول دعواه وعلل القاضي في أسباب حكمه أن الالتزام بالسرية: " يمتد إلى أبعد من حالة الحساب، أي يشمل ما إذا كان الحساب ذا رصيد مدين أو دائن ومقدار هذا الرصيد، ويجب أن يمتد على الأقل إلى كل المعاملات التي تدرج في الحساب وإلى الضمانات المعطاة بخصوص هذا الحساب…"[210].

وتسري آثار المسؤولية العقدية حتى بعد انتهاء العقد الذي يربط بين الزبون والبنك، لأن الالتزام بالسر المهني البنكي يعتبر من آثار العقد التي تبقى سارية المفعول، ويبقى للزبون في هذه الحالة حسب البعض، الخيار للادعاء إما على أساس المسؤولية العقدية   أو التقصيرية[211].

وهذا ما أيده القضاء في بعض قراراته منها أن الالتزام بالسرية يجد أصله في العقد الذي انتهى ويعد في ذات الوقت أثرا من آثاره، مما يحقق للزبون حماية هو في أشد الحاجة إليها[212].

وكقاعدة عامة يمكن الاتفاق على التخفيف أو التشديد في قواعد المسؤولية العقدية، خلافا للمسؤولية التقصيرية قبل تحقق الخطر- كما سبق الذكر- أما بعد تحقق هذه المسؤولية فإنه يمكن الاتفاق على التخفيف منها أو التنازل عنها تماما.

وعليه فمتى تعلق الأمر بالسر المهني البنكي، فإنه يمكن الاتفاق على الإعفاء من المسؤولية، إذا كانت نتيجة إخلال بالتزام عقدي أو التخفيف منها.

وما يمكن استنتاجه إجمالا، هو أن المسؤولية المدنية بكل صورها التي يتحملها البنك عند إخلاله بالالتزام بالسر المهني البنكي، لا تخرج عن القواعد العامة للمسؤولية المنصوص عليها في قانون الالتزامات والعقود إذ تم إصباغ هذه المسؤولية بالخطوط العامة التي تقوم عليها المهنة البنكية.

وتتطلب المسؤولية المدنية بكل صورها لقيامها، توافر أركانها الأساسية، الشيء الذي سنتولى معالجته في هذا المطلب.

المطلب الثاني: أركان المسؤولية المدنية عن إفشاء السر المهني البنكي.

تقتضي المسؤولية المدنية عن إفشاء السر المهني البنكي بشكل عام ارتكاب خطأ من البنك أو تابعيه، سواء إخلالا بالتزام قانوني، ترتب عنه ضرر للزبون صاحب الحق في السر، وأن تكون هناك علاقة سببية بين الخطأ الموجب للمسؤولية والضرر الحاصل.

هذا ما سنتطرق له من خلال ثلاث فقرات.

الفقرة الأولى: الخطأ الموجب للمسؤولية.

يتميز الخطأ المدني بأنه مخالفة إما لالتزام ناشئ عن العقد أو لواجب قانوني عام، هو واجب عدم المساس بحقوق الآخرين دون حق.

وهو يختلف عن الخطأ في دائرة القانون الجنائي الذي يعتبر مخالفة لواجب يفرضه القانون ويعاقب على مخالفته، مع العلم بأن دائرة الخطأ المدني أوسع بكثير من دائرة الخطأ الجنائي. والخطأ المدني ليس له نصوص قانونية تحصره، وإنما يتحدد بالنظر إلى سلوك الرجل المعتاد الذي يعيش في مثل الظروف الخارجية لمرتكب الفعل الضار[213].

والخطأ كما عرفه الفصل 78 من قانون الالتزامات والعقود المغربي هو:" ترك ما كان يجب فعله، أو فعل ما كان يجب الإمساك عنه، وذلك من غير قصد لإحداث    الضرر ".

والخطأ المدني عموما لا يخرج عن مسألتين، فهو إما إخلال بالتزام عقدي تترتب عنه المسؤولية العقدية، وإما إخلال بالتزام قانوني تنتج عنه المسؤولية التقصيرية، أي مخالفة واجب قانوني سابق يتطلب أن يتحرى الشخص في سلوكه واجب اليقظة والتبصر حتى لا يضر بالغير ويطلق على هذا الفعل الضار العمل غير المشروع[214].

ومتى تعلق الأمر بالمهنة البنكية، فإن لها أصولا وقواعد يتعين مراعاتها تتمثل أساسا في أن على البنك أن يقوم بقدر من الحيطة والحذر والعناية بصفته يتوفر على إمكانيات وتجربة تسمح بمحاسبته على أبسط الأخطاء التي يرتكبها خصوصا في حالة إفشاء السر المهني البنكي[215].

وعلى خلاف ما هو مقرر في المسؤولية الجنائية، لا يلزم لقيام المسؤولية المدنية أن يقع الخطأ عن قصد أو تعمد، بل يكفي أن يقع بإهمال. فإذا ترك موظف البنك الدفاتر أو الملفات مفتوحة وكان أحد الأغيار حاضرا فأسترق البصر إلى هذه الأوراق، وألم بأسرار زبناء آخرين، فإن هذا الإهمال يرتب المسؤولية إذا نتج عنه ضرر[216].

وكمثال آخر للخطأ الذي يمكن أن يترتب عن مجرد الإهمال، أن يطلب أحد الأشخاص بالهاتف بيانا بحساب أحد الزبناء ويعطيه له موظف البنك دون التحقق من شخصيته، ثم يتضح أنه ليس هو الزبون صاحب الحساب، ويترتب على ذلك ضرر للزبون صاحب الحساب.

ولاعتبار الفعل خطأ موجبا للمسؤولية في المسؤولية التقصيرية يجب توافر عنصرين أحدهما مادي والآخر معنوي:

 العنصر المادي هو التعدي[217] بإتيان سلوك إرادي يشكل مخالفة لالتزام فرضه القانون أو لالتزامات قانونية غير واردة في نصوص أو ممارسة الحق ممارسة تعسفية[218]. ويقاس التعدي قياسا شخصيا إذا أخذنا الوجهة الذاتية أو قياسا مجردا إذا آثرنا الوجهة الموضوعية. والراجح هو الأخذ بالمقياس المجرد دون المقياس الشخصي: فقياس الانحراف بسلوك شخص مجرد من ظروفه الشخصية وهو الشخص العادي من جمهور الناس، فهو هنا يتمثل في موظف البنك العادي المجرد من ظروفه الشخصية والذي يمثل عامة المستخدمين العاديين وليس بليدا ولا خارق الذكاء[219].

 والعنصر المعنوي هو الإدراك أو التمييز، ومفاده أن يكون للفاعل من التمييز أو الإدراك ما يمكنه من معرفة آثار فعله وما يمكن أن يخلفه من ضرر على الزبون.

وفي حالات النيابة تقع المسؤولية على عاتق الأصيل، ولا يكون النائب مسؤولا قبل الغير إلا إذا ارتكب خطأ تجاوز به حدود نيابته، فإذا لم يرتكب مثل هذا الخطأ لم يكن مسؤولا حتى ولو أصاب الغير ضرر من تنفيذ النيابة.

والأساس في ذلك هو حلول إرادة النائب كأثر للنيابة محل إرادة الأصيل مع انصراف الأثر القانوني لهذه الإرادة إلى شخص الأصيل كما لو كانت الإرادة قد صدرت منه هو.

وفي هذا المقام، فإن موظف البنك في الغالب الأعم كامل الإدراك ومسؤول عن تصرفاته الشخصية لما له من مؤهلات علمية وشخصية تكون أساسا في اختياره عند التعيين. ولذلك فعنصر الإدراك والتمييز متوافر لدى الموظف القائم بالعمل البنكي، فإذا قام  بإفشاء السر المهني البنكي للزبون فإنه يكون مدركا لتصرفه وما يترتب عليه[220].

لكن الإشكال الذي يطرح في هذا السياق، أنه إذا كان يتصور عنصرا الإدراك والتمييز بالنسبة للشخص الطبيعي، فإن هذين العنصرين غير متوفرين لدى البنك كشخص معنوي. ومن ثم، ما هو أساس مساءلته مدنيا في حالة عدم الالتزام بالسر المهني البنكي للزبون؟

يرى غالبية الفقه [221] أن إفشاء الأسرار يقع بواسطة ممثلي الشخص المعنوي أو موظفيه، وأنه يمكن مساءلة الشخص المعنوي على أساس مسؤولية المتبوع عن أفعال تابعيه، وإلزامه بتعويض الأضرار التي يسببها هؤلاء إلى الغير، شريطة أن يقع الخطأ أثناء أو بسبب أو بمناسبة قيام المستخدم بعمله لدى البنك.

وتجد هذه المبادئ أساسها في الفصل 85 من قانون الالتزامات والعقود الذي نص في فقرته الثالثة على أن " المخدمون ومن يكلفون غيرهم برعاية مصالحهم يسألون عن الضرر الذي يحدثه خدامهم ومأموروهم في أداء الوظائف التي شغلوهم فيها…"

فمسؤولية البنك إزاء الأغيار الذين لا يرتبطون به بعقد من العقود تنبني على هذا الأساس، إذا كان الخطأ صادرا من مستخدم لدى البنك كيفما كانت درجته، بشرط ألا يكون رئيسا لمجلس الإدارة أو عضوا فيه، لأن خطأ الرئيس أو العضو في المجلس يشكل أساسا للمسؤولية الشخصية للبنك[222]، باعتبارهما يعبران عن إرادته.

وعلى هذا الأساس- مسؤولية المتبوع عن أعمال التابع- حكمت المحكمة التجارية للدار البيضاء بمسؤولية البنك عن الأخطاء المرتكبة من طرف متبوعيه وحملته التعويض عن الأضرار اللاحقة بالغير.

واستندت في حكمها إلى مقتضيات الفصل 85 في فقرته الثالثة. و جاء في الحكم  أنه: " وحيث إن مسؤولية البنك المدعى عليه، والحالة هذه ثابتة بصفته متبوعا وذلك عن الأخطاء المرتكبة من طرف متبوعيه وهما المستخدمين اللذين تمت إدانتهما…"[223].

ومسؤولية المتبوع عن الأخطاء المرتكبة من طرف تابعيه تقوم على قرينة قاطعة لا تقبل إثبات العكس، مبناها الخطأ المفترض من قبل المتبوع في الرقابة والتوجيه[224]. لكن يمكن للبنك التحلل من هذه المسؤولية إذا أثبت عدم مسؤولية التابع، وأن الضرر الذي أصاب الغير كان بسبب أجنبي لا يد للتابع فيه. أما في حالة تحقق مسؤولية التابع فإنه يحق للبنك أن يرجع عليه بما دفعه من تعويض، ويجد هذا الرجوع أساسه غالبا في عقود الشغل الرابطة بين البنك وموظفيه.

لكن، هل يبقى البنك مسؤولا رغم أنه أنهى علاقته مع المستخدم؟ الراجح أن البنك يتحلل من مسؤوليته منذ اللحظة التي يتخلى فيها عن المستخدم نظرا لانتفاء علاقة التبعية وقت ارتكابه فعل الإفشاء، لكن هذا لا يعني عدم مساءلة الشخص المتسبب في الضرر لزبون البنك على أساس القواعد العامة، أي المسؤولية الشخصية التي سببت ضررا  للغير[225].

وعليه فمتى تعلق الأمر، بخرق الالتزام بالسر المهني البنكي للزبون نتج عن خطأ التابع أثناء تأديته لوظيفته أو بمناسبتها، فإن البنك كشخص معنوي يسأل على أساس مسؤولية المتبوع عن أعمال التابع.

ويقع على الزبون عبء إثبات الخطأ في حق البنك أو أحد موظفيه، لأن الالتزام بسر المهنة البنكية، التزام بامتناع عن عمل، ويجب على الدائن في هذا الالتزام أن يثبت حصول الإخلال به[226].

الفقرة الثانية: الضرر

يعتبر الضرر الركن الثاني في المسؤولية المدنية بشكل عام، فلا يكفي لقيام هذه المسؤولية وقوع الخطأ، بل لا بد أن يترتب على هذا الخطأ ضرر، وإلا انتفت مصلحة المدعي في ممارسة دعوى المسؤولية[227].

والمشرع المغربي في الفصلين 77 و78 من قانون الالتزامات والعقود، علق المطالبة بالتعويض على شرط وقوع ضرر، إضافة إلى باقي الأركان الأخرى المتمثلة في الخطأ و العلاقة السببية.

ويعرف بعض الفقه الضرر بأنه" ذلك الأذى الذي يصيب الإنسان في حياته أو سلامته البدنية أو سمعته، وقد يصيب مصلحة مالية فيتلفها أو ينقص من قيمتها"[228].

هذه المبادئ تنطبق على الضرر الذي يحصل للزبون من جراء إفشاء سر من أسراره البنكية، فلا يكفي أن يقع خطأ من البنك، بل لا بد أن يترتب على هذا الخطأ ضرر للزبون.ونظرا للأهمية التي يحتلها الضرر ذهب القضاء المصري إلى تأسيس هذه المسؤولية على الضرر فقط. حيث قررت محكمة النقض المصرية قيام هذه المسؤولية، رغم أن البنك لم يثبت خطأه وألزمته بتعويض الزبون عن الضرر اللاحق به[229].

ويتجلى من هذا الحكم أن محكمة النقض المصرية أخذت بالمسؤولية الموضوعية، على أساس فكرة المخاطر وتحمل التبعة، وهذا الاتجاه يعتبر تكريسا لموقف سابق لمحكمة النقض الفرنسية[230].

 والضرر الذي يصيب الزبون قد يكون ماديا وقد يكون معنويا أو أدبيا:

 فالضرر المادي يتحقق على سبيل المثال إذا كان من أفشيت إليه الأسرار سيقرض الزبون مالا، أو كان سيتعامل معه، فامتنع عن إقراضه أو التعامل معه بسبب المعلومات التي وصلته من البنك عن هذا الزبون[231].

أما الضرر الأدبي، فهو الذي يصيب الزبون في شعوره أو عاطفته أو سمعته أو كرامته أو اعتباره أو شرفه أو مركزه الاجتماعي، ويستحق عنه التعويض إذا انصرف عن الزبون عملاؤه أو ووجه بازدراء في محيطه الذي يعمل فيه أو استغل منافسوه هذه المعلومات السرية في الدعاية ضده[232].

والقاعدة العامة أنه يستحق التعويض على الضرر الأدبي أو المعنوي رغم وجود نقاش حول مدى استحقاق التعويض عن هذا الضرر[233]،  شريطة إثباته من طرف مدعيه.

ويشترط القضاء في الضرر أن يكون محققا، أي أنه قد وقع فعلا، أما الضرر المحتمل الذي قد يقع فلا تعويض عليه، كما يشترط أن يكون مباشرا ويمس بمصلحة مشروعة للزبون[234].

والضرر لا يرتبط بكون المعلومات التي أفشاها البنك خاطئة، بل إفشاؤها يعد في حد ذاته خطأ يرتب المسؤولية سواء كانت تلك المعلومات خاطئة أو صحيحة.

ولمحكمة الموضوع سلطة تقدير قيمة التعويض، مستندة في ذلك إلى ما لحق الزبون من أضرار، لكن هذه السلطة مقيدة بضرورة تبرير ذلك، حتى يتمكن المجلس الأعلى من بسط رقابته، بشأن حقيقة الضرر الذي لحق بالمدعي، حيث جاء في إحدى قراراته، أنه " يقدر التعويض على أساس ما لحق بالمتضرر من خسارة وما فاته من كسب، وعلى المحكمة أن تبرز ما اعتمدته في تقدير التعويض …

ولما خفضت المحكمة مبلغ التعويض المحكوم به ابتدائيا كان عليها أن تعلل قضاءها تعليلا كافيا يبرر ذلك التعويض"[235].

الفقرة الثالثة: علاقة السببية

تعتبر علاقة السببية الركن الثالث من أركان المسؤولية المدنية بشكل عام، ويمكن تعريفها بأنها إسناد فعل من الأفعال إلى مصدره المباشر، أو العلاقة المباشرة التي تقوم بين الخطأ الصادر من شخص والضرر الحاصل لشخص آخر[236].

وعندما يتعلق الأمر بخطأ من شخص معنوي كالبنك، يجب أن يكون ما أصاب الزبون من ضرر ناتج عن خطأ البنك الذي يتمثل في إفشاء سر الزبون، فإذا كان الضرر مترتبا عن خطأ الزبون نفسه أو غيره، لا يكون البنك مسؤولا. كما لا يكون البنك مسؤولا إذا وقع الإفشاء نتيجة لقوة قاهرة أو حادث فجائي، كأن يشب حريق في مبنى البنك فيقذف بأوراقه إلى الخارج لإنقاذها من الحريق واستطاع بعض المارة أن يلتقط بعضها، وأن يعلم بأسرار من تخصهم هذه الأوراق، فإن هذه القوة القاهرة تقطع رابطة السببية بين خطأ البنك وبين الضرر الحاصل للزبناء فلا يلتزم بتعويضهم[237].

وتكون علاقة السببية مفترضة متى أثبت الزبون المتضرر الخطأ والضرر، ويقع على البنك عبء نفي هذه العلاقة، ولا يجوز له ذلك إلا بإثبات وجود السبب الأجنبي أو القوة القاهرة أو خطأ الزبون، أو أن إفشاء السر المهني للزبون كان نتيجة للاستثناءات المنصوص عليها قانونا[238].

وعليه، تتحقق مسؤولية البنك نتيجة إفشاء سر الزبون، إذا استطاع هذا الآخر إثبات كل أركان هذه المسؤولية حتى تنتج آثارها في مواجهة البنك.

المبحث الثاني: آثار المسؤولية المدنية عن إفشاء السر المهني

يعتبر التعويض أبرز أثر يترتب عن المسؤولية المدنية بشكل عام، حسب القواعد العامة المكرسة في قانون الالتزامات والعقود[239]، فهو التزام يقع على كل من ارتكب خطأ نتج عنه ضرر للغير، بتعويض هذا الضرر إذا أثبت المتضرر أن ذلك الخطأ هو السبب المباشر في حصول الضرر.

فالتعويض إذن هو الحكم الذي يترتب على تحقق المسؤولية (المطلب الثاني)، لكن يسبق ذلك دعوى المسؤولية ذاتها (المطلب الأول).

المطلب الأول: دعوى المسؤولية المدنية عن إفشاء السر المهني البنكي.

لسماع دعوى المسؤولية عن إفشاء السر المهني البنكي، لا بد أن يكون هناك ضرر لحق شخصا ما من جراء ما قام به البنك أو أحد مستخدميه من أفعال مخالفة إما لواجب قانوني عام يتمثل في عدم إفشاء أسرار الزبناء، أو لبند في عقد يمنع ذلك، كما يجب على المتضرر أن يثبت كل أركان المسؤولية من خطأ وضرر وعلاقة سببية، لكن ما يلاحظ هو أن عبء الإثبات يكون صعبا أحيانا، ويثير إشكالا بخصوص من يتحمله.

وعليه سنتناول في فقرتين: أطراف هذه الدعوى، وعنصر الإثبات.

الفقرة الأولى: أطراف دعوى المسؤولية .

تتألف دعوى المسؤولية عن إفشاء السر المهني البنكي من طرفين أساسين هما: المدعي وهو الزبون، والمدعى عليه الذي يتمثل في البنك.

أولا: المدعي.

يعتبر المدعي هو المتضرر مباشرة مما قام به البنك من إفشاء لأسراره، ومن ثم يكون هو صاحب المصلحة والصفة في رفع دعوى المسؤولية عن إفشاء السر المهني ضد البنك[240]، أما غير المتضرر فليس له حق رفع هذه الدعوى.

لكن هذا الحق، لا يثبت للمتضرر وحده بل يثبت أيضا لكل من نائبه أو خلفه[241].

ونائب المتضرر، يجب أخذه بالمفهوم الواسع، فهو إما الولي أو الوصي أو المقدم إذا كان المتضرر من إفشاء السر المهني البنكي شخصا قاصرا، أو الوكيل إذا كان حاصلا على توكيل في هذا الشأن، أو السنديك عندما يتعلق الأمر بإفشاء الأسرار البنكية لشركة خاضعة لمسطرة التسوية القضائية.

أما إذا تعدد المتضررون من فعل الإفشاء الذي قام به البنك، فإنه يحق لكل واحد من هؤلاء ممارسة دعوى مستقلة للمطالبة بالتعويض عن الضرر الحاصل له بعد إثباته. وذلك برفع دعوى شخصية باسمه، ولا تضامن بين المتضررين، بل إن القاضي يقدر تعويض كل واحد منهم على حدة. وإذا كان المتضرر قاصرا قام نائبه مقامه، كالولي أو الوصي أو المقدم[242].

وحق المطالبة بالتعويض عن الضرر الناتج عن إفشاء السر المهني البنكي، يثبت  للورثة بعد وفاة المتضرر، إذا كان قد سبق لهذا الأخير أن رفع دعوى المسؤولية قبل وفاته، حيث تدخل تلك الدعوى ضمن عناصر التركة. أما إذا لم يسبق له أن رفع تلك الدعوى، فإنه يقع التمييز بين التعويض عن الضرر المادي والتعويض عن الضرر الأدبي[243].

فإذا كان التعويض عن الضرر المادي الذي أصاب مال المتوفى من جراء إفشاء أسراره البنكية كأن يفشي البنك بيانا في الصحف عن أرصدة عميل أو يبلغه للغير، ويترتب على ذلك إحجام البنوك الأخرى عن إقراض هذا الزبون استنادا إلى هذا النشر، فإن الحق في التعويض ثابت للمتضرر، وبذلك ينتقل منه إلى ورثته، حيث يصبح من حق الورثة المطالبة بالتعويض، الذي كان مورثهم سيطالب به لو بقي حيا.

أما إذا كان طلب التعويض ناجما عن ضرر أدبي أصاب المتضرر في شعوره أو عاطفته أو كرامته أو شرفه، فإنه لا ينتقل إلى ورثة المتضرر، إلا إذا تحدد بمقتضى اتفاق ما بين المتضرر والمسؤول، أو طالب به المتضرر أمام القضاء[244].

إضافة إلى ذلك، يحق رفع دعوى المسؤولية عن إفشاء السر المهني البنكي من قبل الشركة، إذا تضررت من هذا الإفشاء، ويمثلها في رفع هذه الدعوى مديرها، أو رئيس مجلس إدارتها دون حاجة إلى إدخال الزبناء، ما لم يتعلق الأمر بشركة التضامن[245].

ثانيا: المدعى عليه.

يعتبر البنك هو المدعى عليه في دعوى المسؤولية عن إفشاء السر المهني البنكي، وهو المسؤول عن الضرر الذي لحق المتضرر من جراء الإفشاء الذي صدر منه.

وتوجه هذه الدعوى ضد البنك في شخص ممثله القانوني، كما يسأل البنك عن أفعال مستخدميه الذين صدر منهم فعل الإفشاء أثناء تأدية وظيفتهم، على أساس مسؤولية المتبوع عن أفعال التابع، ويبقى له حق الرجوع على الموظف بالتعويض الذي أداه، ما لم يثبت أن خطأ الموظف الذي نشأ كان سببه تقصير البنك في توجيهه، لأن تقصير البنك بالذات يعتبر خطأ[246].

وإذا صدر حكم بتصفية مؤسسة الائتمان، فإن حق المطالبة بالتعويض في دعوى المسؤولية عن إفشاء السر المهني البنكي، يوجه ضد المصفي الذي يتولى الإشراف على تصفية المؤسسة البنكية تحت مراقبة والي بنك المغرب، ويدرج مبلغ التعويض المحكوم به ضمن خصوم المؤسسة البنكية[247].

ويلاحظ بخصوص أطراف دعوى المسؤولية عن إفشاء السر المهني البنكي، أنه يسري عليهم ما يسري على إفشاء الاسرار عامة، اللهم بعض الخصوصيات التي تتلاءم وطبيعة العمل البنكي.

الفقرة الثانية: عنصر الإثبات في دعوى المسؤولية عن إفشاء السر المهني البنكي.

الأصل أن المدعي هو الذي يتحمل عبء الإثبات في دعوى المسؤولية عن إفشاء السر المهني البنكي طبقا للقواعد العامة للإثبات المكرسة في قانون الالتزامات والعقود المغربي[248].

وبما أن المسؤولية عن إفشاء السر المهني البنكي تقوم على الخطأ والضرر وعلاقة السببية فإن المدعي مطالب بإثبات هذه العناصر.

وعليه، فالزبون المتضرر مما قام به البنك من إفشاء لأسراره، مطالب بإثبات خطأ البنك أو إهماله، فإذا ترك مستخدم البنك الدفاتر والملفات مفتوحة وكان أحد الأشخاص حاضرا فاستقر بصره على هذه الأوراق، أو ألم بأسرار زبناء آخرين، فإن هذا الإهمال يرتب المسؤولية، إذا ما نتج عنه ضرر للزبناء، أو أن يطلب أحد الأشخاص بيانا بحسابات أحد العملاء فيسلمه له مستخدم البنك دون التحقق من شخصيته، ثم يتضح أنه ليس هو صاحب الحساب، فالزبون المتضرر يجب عليه في هذه الحالات إثبات هذا الإهمال الواقع من البنك أو أحد مستخدميه[249].

ويرجع إلقاء عبء إثبات عناصر المسؤولية على عاتق الزبون إلى كون الالتزام بسر المهنة التزام بامتناع عن عمل، فيجب على الدائن في هذا الالتزام أن يثبت حصول الإخلال به[250].

ويرى أحد الباحثين[251] أن الزبون المتضرر لكي يكسب دعواه عليه أن يثبت الخاصية السرية للمعلومات التي تم إفشاؤها، وما يلاحظ على هذا الرأي هو أنه يرهق المتضرر بإثبات صفة السرية، وهذا فيه تكليف لا طائلة منه ما دام الأصل أن كل تعامل يجريه الزبون مع البنك ويتعلق بمعاملاته البنكية يجب أن يبقى طي الكتمان.

كما أن التمييز بين المسؤولية العقدية والتقصيرية للبنك عند إفشاء الأسرار البنكية يرتب بعض الاختلاف حول الطرف الذي يتحمل عبء الإثبات:

فعندما يتعلق الأمر بالتزام عقدي بعدم إفشاء الأسرار البنكية يتحمل الدائن (الزبون) عبء إثبات العقد، وإثبات الالتزام بعدم إفشاء السر، ويتحمل المدين (البنك) إثبات أنه قام بتنفيذ التزامه العقدي، وهذا عكس المسؤولية التقصيرية الناتجة عن الإخلال بالتزام قانوني، فعبء الإثبات في هذا الحالة يقع على الدائن، بأن المدين قد خالف التزامه القانوني أو ارتكب عملا غير مشروع (خطأ تقصيريا) فيكلف الدائن بإثبات الخطأ في جانب البنك[252].

كما يجب على المضرور أن يثبت الضرر الذي لحقه بسبب الإفشاء الذي قام به البنك.

ولما كانت واقعة الضرر واقعة مادية، لذلك يجوز إثباتها بكافة طرق الإثبات[253].

كما يقع على الزبون المتضرر عبء إثبات علاقة السببية بين خطأ

المسؤولية عن إفشاء السر المهني البنكي


يقوم البنك بنشاط هام في الحياة الاقتصادية المعاصرة، باعتباره الممول الأساسي للأنشطة الاقتصادية، وملجأ المستثمرين الباحثين عن الاستفادة من خبراته وخدماته الواسعة، سواء كأفراد ذاتيين أم كشركات.

والبنك إذ يضطلع بهذه المهام الأساسية، يعتمد على مجموعة من المبادئ الثابتة التي كرستها المعاملات، والأعراف البنكية منذ زمن طويل، حتى تحولت إلى قواعد قانونية راسخة في التعاملات البنكية.

ويأتي مبدأ الالتزام بالسر المهني البنكي للزبون في مصاف هذه المبادئ، حيث يلتزم البنك بمقتضاه بعدم إفشاء الأسرار البنكية التي أودعها لديه زبناؤه، أو اطلع عليها بمناسبة ممارسته لمهامه، وكل إخلال بهذا الالتزام يعرض البنك للمسؤولية.

هذه المسؤولية التي تطورت مع تطور هذا المبدأ، وانتشاره بين دول العالم، حيث ثم تجريم إفشاء المعلومات الائتمانية التي أودعها الزبون لدى البنك، ليس فقط حماية لمصالحه المالية والأدبية، ولكن أيضا لحماية الثقة في البنوك، كمؤسسات مالية واقتصادية تباشر مهنة هامة اجتماعيا واقتصاديا، فضلا عن حماية المصلحة العامة في تدعيم الائتمان وتوفير المناخ المناسب للاستثمار والاستقرار الاقتصادي.

وتنبني هذه الحماية على مسؤولية مزدوجة: إما على نصوص خاصة في الدول التي تعتمد قوانين خاصة بالسرية البنكية، وإما على نصوص جنائية عامة تتعلق بأسرار المهنة بشكل عام.

كما يحفظ للزبون المتضرر حق اللجوء إلى الدعوى المدنية، للمطالبة بتعويض الضرر الذي لحقه من جراء ما قام به البنك من إفشاء لأسراره في إطار المسؤولية المدنية.

وتندرج المسؤولية عن إفشاء السر المهني البنكي في التشريع المغربي، في إطار المادة 79 من القانون المتعلق بمؤسسات الائتمان والهيئات المعتبرة في حكمها، الصادر في 14 فبراير 2006، التي ألزمت مجموعة من الأشخاص بكتمان السر المهني الذي اطلعت عليه بمناسبة ممارسة مهامها، وإخلالها بهذا الالتزام يعرضها للمسؤولية الجنائية المنصوص عليها في الفصل 446 من مجموعة القانون الجنائي.

ويتحدد الإطار العام للمسؤولية عن إفشاء السر المهني البنكي حسب ما تقضي به المادة 79 من القانون البنكي الجديد، في أشخاص هذا الالتزام، وكذلك من حيث مضمونه.

كما يتسع نطاق هذه المسؤولية من حيث الأشخاص ليشمل إضافة إلى البنك أو ممثليه، كل شخص يكون له حق المراقبة أو الاطلاع على المعلومات البنكية. وكل إخلال بهذه المعلومات يعطي للزبون أو من يقوم مقامه، حق المساءلة باعتباره طرفا دائنا في هذا الالتزام.

لكن المادة 80 من القانون البنكي الجديد، حددت بعض الجهات التي لا يمكن مواجهتها بالسر المهني البنكي، والتي تتمثل في بنك المغرب، والسلطة القضائية العاملة في إطار مسطرة جنائية، إضافة إلى جهات أخرى منصوص عليها في باقي فروع القانون (إدارة الضرائب مثلا). ففي ظل هذه الحالات يعفى البنك من المسؤولية عن إفشاء السر المهني. الشيء الذي يخفف من صلابة هذه المسؤولية، ويبرز غنى هذا الموضوع وتشعبه.

إضافة إلى حالات الإعفاء المنصوص عليها قانونا، يعفى البنك من هذه المسؤولية بموجب الاتفاق، كأن يتنازل الزبون عن حقه في الالتزام بالسر المهني البنكي.

غير أن المسؤولية عن السر المهني البنكي، تواجهها مجموعة من الإكراهات في السنوات الأخيرة، خاصة مع انخراط البنوك في محاربة عمليات غسل الأموال وطنيا ودوليا، حيث أصبح البنك يواجه مسؤولية مزدوجة تتمثل؛ في عدم الإخلال بالسر المهني البنكي لزبنائه من جهة، والتزامه بمحاربة عمليات غسل الأموال من جهة ثانية، التي غالبا ما تتطلب كشف تلك السرية. كما ازدادت هذه المسؤولية تعقيدا مع تطور وسائل التكنولوجيا الحديثة، التي توظفها البنوك والقائمة على أداء الخدمات البنكية الإلكترونية، فيما أصبح يعرف بنظام البنوك الإلكترونية، التي لا تسلم من الاختراقات مهما تطور نظام الحماية.

  في ظل هذه الأوضاع السابقة:

هل ستبقى المسؤولية عن إفشاء السر المهني البنكي محافظة على كيانها، أم أنها ستختفي تدريجيا مع اختفاء السر المهني البنكي نفسه؟ خصوصا مع اتساع حالات الإعفاء من هذه المسؤولية، وازدياد أهمية دور الأبناك في مكافحة عمليات غسل الأموال؟.

لمعالجة هذه الإشكالية سنعتمد التصميم التالي:



 -الفصل الأول: الإطار العام للمسؤولية عن إفشاء السر المهني البنكي.

      -الفصل الثاني: الجزاءات الناتجة عن إفشاء السر المهني البنكي.

















الفصل الأول:

 الإطار العام للمسؤولية عن إفشاء السر المهني البنكي

يتفرع الإطار العام للمسؤولية عن إفشاء السر المهني البنكي، إلى نطاق هذه المسؤولية من حيث الأشخاص الملزمين بكتمان السر المهني البنكي الذي اطلعوا عليه بمناسبة وظيفتهم.

 وهذا الالتزام يخص جميع المعلومات والعمليات البنكية المتعلقة بالزبناء، وكل إخلال بهذا الالتزام يوقعهم تحت طائلة العقوبات المنصوص عليها في القانون الجنائي (الفرع الأول)، ما لم يكن الأمر يتعلق بحالة من حالات الإعفاء من المسؤولية، سواء بنصوص قانونية صريحة، كما في المادة 80 من القانون المتعلق بمؤسسات الائتمان والهيئات المعتبرة في حكمها، أم بموجب الإعفاء الذي يمنحه الزبون صاحب الحق في السر برضاه، لكن مع ذلك تواجه هذه المسؤولية بعض الصعوبات الخطيرة (الفرع الثاني).

الفرع الأول: نطاق المسؤولية عن إفشاء السر المهني البنكي.

يشمل نطاق هذه المسؤولية كل الأشخاص الملتزمين بالمحافظة على أسرار الزبناء (المبحث الأول)، كما يتحدد نطاقها في مضمون هذا السر ومدته، وكل شيء يخرج عن هذا النطاق لا يعتبر التزاما موجبا للمسؤولية (المبحث الثاني).

المبحث الأول: من حيث الأشخاص الملتزمين بالسر المهني البنكي.

يتحدد نطاق السر من حيث الأشخاص في أطراف هذا الالتزام، باعتباره كباقي الالتزامات الأخرى يتكون من طرفين؛ طرف مدين يتمثل في البنك، وكل شخص  له حق الاطلاع والمراقبة( المطلب الأول)، وطرف دائن  يتمثل في الزبون

( المطلب الثاني).

المطلب الأول: البنك ومن له حق الاطلاع و المراقبة.

يلتزم البنك بعدم إفشاء أسرار الزبون، وفي حالة إخلاله بهذا الالتزام، يقع تحت طائلة المسؤولية سواء الجنائية أم المدنية أم التأديبية، إما بالنسبة إليه كمؤسسة أو بالنسبة لموظفيه كأشخاص ذاتيين إذا كان لذلك أساس.

وتتأسس هذه المسؤولية على الماة 79 من القانون المتعلق بمؤسسات الائتمان والهيئات المعتبرة في حكمها[1]، التي تلزم جميع الأشخاص الذين يشاركون بأي وجه من الوجوه، في إدارة مؤسسة ائتمان أو تسييرها أو تدبيرها أو يكونون مستخدمين لديها، وأعضاء المجلس الوطني للائتمان والادخار، ولجنة مؤسسات الائتمان، واللجنة التأديبية لمؤسسات الائتمان، ولجنة التنسيق بين أجهزة الرقابة بالقطاع المالي، والأشخاص المكلفون ولو بصفة استثنائية بأعمال تتعلق بمراقبة المؤسسات الخاضعة لرقابة بنك المغرب عملا بهذا القانون، وبوجه عام كل شخص يدعى بأي وجه من الوجوه، للاطلاع على المعلومات المتعلقة بالمؤسسات المذكورة أو لاستغلالها وذلك فيما يتعلق بجميع القضايا التي ينظرون فيها بأي صفة كانت. كل هؤلاء الأشخاص يلتزمون بكتمان السر المهني البنكي تحت طائلة المسؤولية. وعليه فنطاق هذه المسؤولية يشمل مجموعة من الأشخاص إضافة إلى البنك(الفقرة الثانية).

لكن قبل التطرق لمسؤوليات هؤلاء الأشخاص، سنتطرق أولا إلى البنك كمؤسسة مركزين على تعريفه القانوني وشروط ممارسته للمهنة البنكية ليدخل في مناط المسؤولية(الفقرة الاولى).

الفقرة الأولى: البنك.

عرف المشرع المغربي البنك في المادة 1 من القانون المتعلق بمؤسسات الائتمان والهيئات المعتبرة في حكمها، بأنه "تعتبر مؤسسات للائتمان الأشخاص المعنوية التي تزاول نشاطا في المغرب، أيا كان موقع مقرها الاجتماعي أو جنسية المشاركين في رأس مالها أو مخصصاتها أو جنسية مسيريها، والتي تحترف بصفة اعتيادية[2] نشاطا واحدا أو أكثر من الأنشطة التالية:

–       تلقي الأموال من الجمهور.

–       عمليات الائتمان.

–       وضع جميع وسائل الأداء رهن تصرف العملاء أو القيام بإدارتها".

ويتضح من خلال هذه المادة حسب بعض الباحثين أن؛المشرع في تعريفه لمؤسسات الائتمان، ظل مخلصا للنظرية الموضوعية التي يعتنقها في القانون التجاري والتي تجعل من العمل التجاري مناطا لتعريف التاجر، فمزاولة العمليات الواردة في القانون المتعلق بمؤسسات الائتمان والهيئات المعتبرة في حكمها، هي التي تسبغ على المؤسسة صفة "مؤسسة الائتمان"[3].

كما أن المادة 12 من القانون المتعلق بمؤسسات الائتمان تمنع على كل شخص غير معتمد باعتباره مؤسسة ائتمان أن يحترف، بصفة اعتيادية القيام بالعمليات المشار إليها في المادة 1 أعلاه، غير أن هذه المادة، بينت بعض العمليات التي يمكن ممارستها من قبل المؤسسات غير البنكية، والتي لا تنطبق  عليها صفة مؤسسة الائتمان حسب المدلول السابق. ورتبت على مخالفة هذه المقتضيات العقوبة المنصوص عليها في المادة 136 من  القانون البنكي لسنة 2006.

يتضح مما سبق، أنه لا يسمح لأي شخص سواء كان طبيعيا، أو اعتباريا ممارسة نشاط الائتمان، إلا إذا جاء في شكل شركة مساهمة ذات رأس مال ثابت، باستثناء المؤسسات التي حدد لها القانون نظاما أساسيا خاصا حسب ما هو مكرس في المادة 28 من القانون المتعلق بمؤسسات الائتمان والهيئات المعتبرة في حكمها. و كل مخالفة لهذه المقتضيات تنتج عليها عقوبات جنائية ومالية.

وبالإضافة إلى الأنشطة الأصلية التي نص عليها المشرع المغربي في المادة1 من القانون المتعلق بمؤسسات الائتمان المشار إليه، أضاف أنشطة فرعية في المادة 9 من نفس القانون، مواكبة للتطورات الحاصلة في الأسواق المالية الدولية[4]. أما بالنسبة لفروع مؤسسات الائتمان المغربية في البلدان الأخرى فتخضع لقوانين هذه البلدان فيما يخص نطاق مسؤولياتها في الالتزام بالسر المهني البنكي، أما المقر الرئيسي فيبقى خاضعا للقانون الوطني المغربي.

هذا ما يسير عليه كل من التشريعين المغربي والفرنسي في تعريف المؤسسة البنكية وشروط ممارستها للنشاط البنكي، حتى تدخل في نطاق الالتزام بالسر المهني البنكي، وأن مخالفتها لهذه الشروط والأحكام يعرضها للمساءلة الجنائية.

    وإذا كان المشرع المغربي ونظيره الفرنسي يكتفيان بالشروط العامة لممارسة العمل البنكي فإن بعض التشريعات المقارنة تطلبت شروطا خاصة، كالقانون اللبناني الذي نص في الفصل 1 من قانون سرية المصارف اللبنانية رقم 6 لسنة 1956،على أنه تخضع لسر المهنة المصارف المؤسسة في لبنان في شكل شركات مغلقة، وفروع الشركات الأجنبية. بشرط حصول كل هذه المؤسسات على موافقة خاصة يعطيها وزير المال لهذه الغاية.واستثنى من أحكام هذا القانون مصرف التسليف الزراعي والصناعي والعقاري[5].

وبحسب هذه المادة، لا تستطيع كل المصارف العاملة في لبنان، الاستفادة من السرية المصرفية، بل قسم منها وحده، هو الذي يحق له التمتع بهذا النظام، بعد تقديم طلب في الموضوع إلى وزير المال، والحصول على إذن منه[6]. ويخضع إعطاء هذا الإذن إلى سلطة الوزير التقديرية تماشيا مع مصالح الدولة، غير أنه في حالة الرفض، يمكن الطعن في هذا القرار، بالشطط في استعمال السلطة أمام محكمة النقض اللبنانية.

كما يسير قانون البنوك وصناديق الادخار السويسري[7] في هذا الاتجاه، إذ يفرض على البنوك الأجنبية التي تباشر نشاطها في سويسرا ضرورة التقيد بالسر المهني البنكي؛ على غرار الشركات التابعة وموظفو فروع البنوك، أو وكلاؤها المعينون في سويسرا. إذ لا يسمح لها بإفشاء أسرار الزبناء بل تبقى مدينة لهم في هذا الالتزام.

كما يمنع على المديرين والمستخدمين في الشركات التابعة السويسرية أو فروع البنوك الأجنبية، أن يفشوا أية معلومات تتعلق بزبنائهم للشركات الأصلية (الشركات الأم) أو للمكتب الرئيسي، أو لمراقب الحسابات الأجنبي أو للسلطات الأجنبية.

إضافة إلى البنك كمؤسسة،ألزم المشرع عدة أشخاص آخرين بالحفاظ على السر المهني البنكي، وبالتالي أدخلهم في نطاق المسؤولية عن إفشاء السر المهني البنكي، باعتبارهم مدينين في هذا الالتزام.

الفقرة الثانية: من له حق الاطلاع والمراقبة.

نص المشرع المغربي في المادة 79 من القانون المتعلق بمؤسسات الائتمان والهيئات المعتبرة في حكمها، على مجموعة من الأشخاص الذين يشتغلون في دائرة البنك وألزمهم بكتمان السر المهني البنكي، وعليه فنطاق المسؤولية يتسع ليشمل كل شخص له علاقة بالمؤسسات البنكية، وله حق الاطلاع والمراقبة. فنجد المشرع يستخدم عبارات واسعة وعامة وغير محددة، مثلا: "جميع الأشخاص الذين يشاركون بأي وجه من الوجوه في إدارة مؤسسة ائتمان أو تسييرها أو تدبيرها أو يكونون مستخدمين لديها وأعضاء المجلس الوطني للائتمان والادخار ولجنة مؤسسات  الائتمان واللجنة التأديبية لمؤسسات الائتمان ولجنة التنسيق بين أجهزة الرقابة بالقطاع المالي، والأشخاص المكلفين ولو بصفة استثنائية بأعمال تتعلق بمراقبة المؤسسات الخاضعة لرقابة بنك المغرب عملا بهذا القانون وبوجه عام كل شخص يدعى بأي وجه من الوجوه للاطلاع على المعلومات المتعلقة بالمؤسسات المذكورة أو لاستغلالها…"[8] كل هؤلاء الأشخاص يلتزمون بكتمان السر المهني تحت طائلة العقوبات الجنائية والتأديبية.

لكن ما يلاحظ على المشرع هو إغراقه في العموميات، وعدم تحديد الأشخاص بشكل دقيق كما فعلت بعض التشريعات المقارنة.

    فمثلا نص المشرع المصري في المادة الأولى من القانون رقم 205 لسنة 1990[9] على أنه" تكون جميع حسابات العملاء وودائعهم وأماناتهم وخزائنهم في البنوك، وكذلك المعاملات المتعلقة بها سرية، ولا يجوز الاطلاع عليها أو إعطاء بيانات عنها بطريق مباشر أو غير مباشر…"

ووضح المشرع المصري في هذا السياق الأشخاص الملتزمين بهذا السر فنص في المادة 5 من نفس القانون أنه:" يحظر على رؤساء وأعضاء مجلس إدارة البنوك ومديريها أو العاملين بها إعطاء أو كشف أية معلومات أو بيانات عن عملاء البنك أو حساباتهم أو ودائعهم أو الأمانات أو الخزائن الخاصة بهم…أو تمكين الغير من الاطلاع عليها في غير الحالات المرخص بها بمقتضى أحكام القانون".

بناء على ما سبق، فإذا قام أحد الأشخاص المشار إليهم أعلاه، والذين تمكنوا من الاطلاع على كل أو بعض المعلومات المتعلقة بالحسابات البنكية، بإفشاء هذه المعلومات إلى الغير، فإنه يقع تحت طائلة الجزاءات الخاصة التي نص عليها القانون رقم 205 لسنة 1990.

وعلى نهج التحديد الدقيق للأشخاص الملتزمين بالسر المهني البنكي سار قانون سرية المصارف اللبناني لسنة 1956 حيث نص في المادة الثانية منه على أن مديري ومستخدمي المصارف (المصارف اللبنانية وفروع المصارف الأجنبية)، وكل من له حق الاطلاع بحكم صفته أو وظيفته بأي طريقة كانت على قيود الدفاتر والمعاملات والمراسلات المصرفية، يلزمون بكتمان السر إطلاقا لمصلحة زبائن هذه المصارف، ولا يجوز  لهم إفشاء ما يعرفونه عن أسماء الزبائن وأموالهم والأمور المتعلقة بهم لأي شخص فردا كان أو سلطة عامة إدارية أو عسكرية أو قضائية، إلا في حالات ضيقة منصوص عليها قانونا[10].

يتضح من هذه المادة، أن المشرع اللبناني يأخذ بالسرية المطلقة، حيث إن هذا الالتزام لا يسقط في مواجهة جهات مهمة مثل السلطة العامة وجهاز القضاء. الشيء الذي نجده ضمن الحالات التي ترفع فيها هذه السرية في بلدان عديدة، كما أن هذه الصرامة في تحديد المسؤولية لا يوازيها إلا رغبة المشرع اللبناني في جلب الزبائن وتوفير مناخ ازدهار العمل البنكي، وبالتالي ضمان طمأنينة زبناء البنوك.

كما أن المشرع السويسري كان أكثر وضوحا في تحديد الأشخاص الملتزمين بالحفاظ على السر المهني البنكي ، إذ نص في المادة 47 من القانون الفيدرالي السويسري الخاص بالبنوك وصناديق التوفير الصادر في 8 نونبر 1934 على أن "كل من يفشي عمدا معلومات سرية عهد إليه بها بصفته مديرا،أو مفوضا أو مأمور تصفية، أو مأمور تنفيذ لبنك، أو كعضو في لجنة مصرفية أو كمراقب حسابات أو توصل إلى معرفتها بهذه الصفة، وكل من يحرض شخصا على انتهاك السر المهني…"[11].

ويستنتج من هذا النص أن عباراته قابلة للتطبيق على أشخاص محددين بذواتهم، وليس على البنوك كأشخاص معنوية، لتفادي كل غموض في المسؤولية. وعليه ينبغي على المشرع المغربي أن يقتدي بنظيره السويسري فيما يتعلق بتحديد الأشخاص الملتزمين بالسر المهني البنكي بشكل دقيق وواضح، حتى يبقى نطاق المسؤولية محددا وغير غامض، وحتى لا تضيع المسؤولية بين كثرة الأشخاص، وبالتالي يتسنى للزبون اقتضاء حقه باعتباره متضررا من إفشاء السر البنكي.

المطلب الثاني: الزبون.

يشمل نطاق السر البنكي من حيث الأشخاص الزبون باعتباره الطرف الدائن في هذا الالتزام، وهو الذي أودع سره لدى البنك، أو أطلعه عليه واطمأن إلى أنه سيكتمه[12]. مما يعني أن موجب هذا السر وضع لمصلحة الزبون، ولا يجوز للملتزمين به إفشاء ما يعرفونه عن زبنائهم لأي سبب كان، إلا فيما يتعلق بالاستثناءات التي تشكل حدودا لهذا الموجب.

وهذا الزبون يجب أخذه بمفهوم واسع، فهو يمكن أن يكون شخصا طبيعيا(الفقرة الأولى)، كما يمكن أن يكون شخصا معنويا(الفقرة الثانية)، بشرط أن يلجأ إلى البنك للاستفادة من خدماته، وأن يوافق هذا الأخير على القيام بالعمليات التي طلبها.



الفقرة الأولى: الزبون شخص طبيعي.

تجدر الإشارة أن المشرع المغربي لم يخصص حيزا للحديث عن الزبون كمستفيد من السر المهني البنكي، سواء في القانون المتعلق بمؤسسات الائتمان والهيئات المعتبرة في حكمها الجديد، أم في القانون القديم الذي كان يتعلق بنشاط مؤسسات الائتمان ومراقبتها، لكنه تحدث عن الزبون خلال تنظيمه للشيك المسطر في المادة 281 من مدونة التجارة[13].

وفي ظل عدم الوضوح الذي يكتنف التشريع المغربي حول مفهوم الزبون كدائن في الالتزام بالسر المهني البنكي، ومستفيد منه، سنبحث في التشريعات المقارنة عن تبيان   هذا المفهوم.

فالمشرع اللبناني نص في المادة الثانية من قانون سرية المصارف على أن: "مديري ومستخدمي المصارف…. ملزمون بكتمان السر إطلاقا لمصلحة زبائن هذه المصارف ولا يجوز لهم إفشاء ما يعرفونه عن أسماء الزبائن وأموالهم والأمور المتعلقة بهم…".

و يستفاد من هذه المادة أن الالتزام بالسر المهني البنكي وضع لمصلحة الزبون. ولا يجوز أن يستفيد منه إطلاقا إلا الزبون أو من يرخص له هذا الأخير بإذن كتابي، ولذلك فمن الطبيعي أن يكون لهذا الشخص حق الاطلاع على الوثائق التي دون فيها سره، دون أن يكون للبنك التمسك في مواجهته بالسر، وكذلك يكون له أن يتنازل عن حقه بأن يسمح للبنك بإفشاء الواقعة التي كانت مناط سر بالنسبة إليه.

هذه القاعدة تبدو طبيعية حسب بعض الفقه[14] ولا تثير خلافا، لأن الزبون هو صاحب السر، ولا يمكن أن ينتج التزام البنك بالكتمان أي أثر في مواجهته.

ومع ذلك لم يعط المشرع اللبناني مدلولا محددا للزبون، رغم أنه تحدث عنه في المواد التي تعنى بسرية الحساب المصرفي.

كما أن المشرع الفرنسي لم يعط بدوره تحديدا لمدلول الزبون تاركا هذا التحديد للفقه والقضاء. الشيء الذي يجعلنا نتقفى هذا الفقه والقضاء حول مدلول الزبون.

لقد حاول الفقه والاجتهاد القضائي الفرنسيان تحديد معنى الزبون في سياق البحث عن الزبون المستفيد من الشيك المسطر، ومر هذا التعريف بمرحلتين[15] :

–       مرحلة المفهوم الضيق:

حيث كان الفقه الفرنسي في هذه المرحلة يعتبر الزبون كل شخص معروف من طرف البنك، لأنه فتح حسابا لديه، وكان يستبعد المتعامل العابر، أو العارض.

وفي هذا السياق كان الاجتهاد القضائي يشترط وجود علاقات سابقة ومستمرة بين البنك، وبين المتعامل معه لاعتباره من زبنائه، وأن الشخص الذي يتقدم لأول مرة إلى البنك لا يكتسب صفة الزبون لمجرد قيامه بعملية مصرفية عارضة لم تتم بمحض اختياره وإدارته.

لكن مع صدور الحكم بالنقض سنة 1962 انفصل الاجتهاد القضائي عن الفقه وأخذ منحى تفسيريا واسعا لمفهوم الزبون[16].

– مرحلة المفهوم الواسع:

ومع هذا الاتجاه القضائي الذي وسع من مفهوم الزبون معتبرا أنه يكفي لكي يعتبر الشخص زبونا للبنك، أن يكون معروفا بصورة مباشرة أو غير مباشرة من قبل البنك، ويمكن أن تنتج هذه الصفة عن مجرد عملية تحقق بسيطة من هوية طالب فتح الحساب، ودون أن يستتبع ذلك بالضرورة وجود علاقات سابقة ودائمة.

إلا أن هذا التحول في الاجتهاد القضائي الفرنسي لم يستقطب الموافقة الإجماعية للفقه الذي بقي بمجمله ملتزما بالمفهوم الضيق للزبون[17].

لكن إذا كان البعض[18] يوجب التشدد في قبول صفة الزبون تجاه حاملي الشيكات المسطرة، فإن هذا التشدد غير مقبول في مجال السرية المصرفية، لأن من شأن التضييق المطبق على هذه الشيكات وضع حد لأعمال الغش والاحتيال. في حين أن الأخذ بروح الالتزام بالسر البنكي يقتضي عدم التشدد وعدم التضييق. لأن من شأن التشدد في هذه الصفة أن يضيع حق الزبون كدائن في هذا الالتزام، وأن يضيق من نطاق المسؤولية إلى درجة يتم إقصاء عدة زبناء لمجرد أن ليس لهم علاقات سابقة مع البنك المدين بهذا الالتزام.

إلا أنه لا يجوز بأي شكل من الأشكال إضفاء صفة "زبون البنك" على أشخاص حصلت لهم معاملات مع البنك باستعمال طرق ملتوية غير شريفة عن طريق السرقة أو الاحتيال مثلا. فسارق الشيك لا يمكن اعتباره من زبناء البنك أو من المتعاملين معه، وبالتالي لا يحق له التمسك بموجب السرية البنكية[19].

يستنتج مما سبق أنه يجب عدم التشدد في صفة الزبون عند الحديث عن السر المهني البنكي، واعتماد التفسير الواسع لهذه الصفة لتشمل جميع الأشخاص المتعاملين مع البنك أو بواسطته، كيفما كان نوع وظروف هذا التعامل. وعليه فلكي يعتبر الشخص زبونا في مفهوم السر المهني البنكي، لا حاجة لأن يكون صاحب حساب مفتوح في دفاتر البنك، أو قد جرت بينه وبين هذا البنك علاقات سابقة أو دائمة أتاحت فرصة معرفته والتدقيق في هويته، بل يكفي لكي يعتبر الشخص زبونا أن يكون قد قام بعمليات بنكية مهما كان نوعها وقيمتها شريطة أن يقرها القانون ويحميها.

الفقرة الثانية: الزبون شخص معنوي.

إن صفة الزبون لا تقتصر على الشخص الطبيعي فحسب، بل يمكن أن تشمل حتى الأشخاص المعنوية، خصوصا وأن الشخص المعنوي، مهما كان شكله القانوني وطبيعته، يتوفر على الشخصية القانونية التي تجعل منه كيانا قانونيا ذا ذمة مالية مستقلة عن ذمم الأشخاص الطبيعيين الذي يؤلفونه، الشيء الذي يجعل منه زبونا يتمتع بكل مقومات الشخصية القانونية. هذه الشخصية التي تشكل وعاء لاستقبال الحقوق وتحمل الالتزامات[20].

وهكذا لا يقتصر نطاق المسؤولية عن إفشاء السر المهني البنكي في مواجهة البنك، على الأشخاص الطبيعيين، بل يشمل حتى الأشخاص المعنويين باعتبارهم دائنين في الالتزام بالسر البنكي.

فمجرد أن يتقدم ممثل الشخص المعنوي[21] إلى البنك للاستفادة من خدماته أو للقيام ببعض العمليات البنكية يكتسب صفة الزبون، ويصبح بالتالي دائنا في مواجهة البنك،  فيتسع من ثم نطاق المسؤولية ليشمله. خاصة وأن طلب خدمات الأبناك من قبل الشخص المعنوي(وخصوصا الشركات التجارية والتجار) هو ضرورة قانونية[22].

يترتب على ما سبق، أن المستفيد من التزام البنك بكتمان السر المهني في هذه الحالة، هو الشخص المعنوي، باعتباره أودع أسراره لدى البنك عندما دخل معه في تعاملات بنكية، وبالتالي لا يجب أن يتحول هذا الالتزام إلى سلاح يحجب بعض الأمور على الزبون نفسه.

وهذه القاعدة واضحة ولا تثير خلافا، إذ كرسها القضاء المقارن في العديد من التطبيقات، منها ما ورد عن القضاء التونسي [23]، وذلك في قضية خلاصتها أن شركة واقع انحلت بحكم قضائي، وعين لها مصفون بمقتضى الحكم ذاته، ولما بدأ المصفون في عملياتهم وجدوا صعوبات بسبب ضياع دفاترها، فلجؤوا إلى البنك الذي كانت الشركة تتعامل معه لتقديم المعلومات التي يطلبونها، فرفض  البنك متدرعا بأن ذلك يدخل في سر المهنة البنكية. فقضت محكمة تونس بأنه "إذا كانت المستندات المحاسبية التي قدمت للبنك قد أصبحت ماديا ملكا له، فإن المعلومات التي فيها ليست كذلك، بل إن ما بالدفاتر والمراسلات ومحاضر الجرد… ملك الشركة ذاتها، ولا يمكن أن يحتج بالحق في كتمانها على الشركة ذاتها، أو على ممثليها الذين عينهم القضاء في مهمة تستلزم الاطلاع على هذه المستندات". وحكمت على البنك بغرامة تهديدية عن كل يوم تأخير في تقديم المعلومات المطلوبة، وتأكد هذا الحكم في قرار استئنافي بتاريخ 9 يوليوز 1976[24].

وإجمالا لا يعتبر مستخدمو المصرف زبناء له، وإن كانوا يتقاضون مرتباتهم من صندوقه، لأنهم لا يتعاملون معه كزبائن، بل كعمال ومستخدمين وهذا التعامل لا يدخل ضمن نطاق العمليات البنكية التي من شأنها أن تجعلهم زبناء[25].

كما أن الزبون السابق للبنك الذي انقطعت علاقته به ولم يعد له أي اتصال مع البنك، لا يتمتع بصفة الزبون شأنه في ذلك شأن مزور إمضاء الشيك الذي لا يعتبر زبونا للبنك، ولا متعاملا يحق له الاستفادة من السر المهني البنكي، لكي لا يحمي نفسه من الجرم الذي ارتكبه.

ويستخلص مما سبق أن نطاق المسؤولية من حيث الأشخاص يتسع ليشمل طرفي الالتزام؛ البنك باعتباره المدين في الالتزام بالسر المهني البنكي وكل مستخدميه والأشخاص الذين حددهم المشرع في المادة 79 من القانون المتعلق بمؤسسات الائتمان والهيئات المعتبرة في حكمها مع ما يكتنف هذه المادة من عدم الوضوح والدقة في تحديد المسؤولية مقارنة مع بعض التشريعات المقارنة، والزبون بمفهومه الواسع باعتباره دائنا في هذا الالتزام ومن يمثل هذا الأخير وينوب عليه مما يوفر حماية له باعتباره طرفا ضعيفا في هذا الالتزام. إضافة إلى أنه كلما حافظ البنك على أسرار زبنائه، كلما ازداد عددهم وارتفع حجم تعاملاتهم، الشيء الذي يقوي الثقة في الائتمان ويعود بالخير على الحياة الاقتصادية بشكل عام.

وإذا كان هذا ما يتعلق بنطاق المسؤولية من حيث الأشخاص الملتزمين بالسر المهني البنكي، فما هو نطاقها من حيث مضمون السر الواجب الالتزام به ومدته؟







المبحث الثاني: مضمون السر الواجب الالتزام به و مدته.

إن الالتزام بالمحافظة على السر المهني البنكي، يقع على عاتق البنك تجاه كل زبنائه سواء كانوا أشخاصا طبيعيين أو معنويين، الشيء الذي يجعلنا نتساءل عن ماهية الوقائع والمعلومات التي يتوجب على البنك المحافظة على سريتها لصالح زبنائه، وإلى أي مدى تبقى هذه الوقائع سرية؟

المطلب الأول: مضمون السر الواجب الالتزام به

يختلف مضمون السر المهني البنكي باختلاف التشريعات، الشيء الذي يجعلنا نبحثه في كل من التشريع المغربي وفي التشريعات المقارنة.

الفقرة الأولى: مضمون السر المهني البنكي في التشريع المغربي.

لم يبين المشرع المغربي، سواء في القانون الذي كان يتعلق بنشاط مؤسسات الائتمان ومراقبتها القديم، أم في القانون المتعلق بمؤسسات الائتمان والهيئات المعتبرة في حكمها الجديد، الوقائع والمعلومات التي يتوجب على البنك المحافظة على سريتها، بل اكتفى بذكر عبارة عامة[26]. كما أن النص المحال عليه في القانون الجنائي- الفصل 446- لم يبين هو الآخر هذا المضمون، وإنما نص بشكل من العمومية، حيث عاقب كل شخص يعتبر من الأمناء على الأسرار، بحكم مهنته أو وظيفته، الدائمة أو المؤقتة، إذا أفشى سرا أودع لديه، بعقوبات حبسية زيادة عن الغرامة.

وأمام هذا الغموض الذي يعتري التشريع المغربي حول تبيان المقصود بالوقائع والمعلومات التي يتوجب على البنك المحافظة على سريتها، يتحتم علينا البحث في الفقه عن حل لهذا الإشكال.

لقد أورد الفقه أسلوبين لتحديد الوقائع والعمليات التي تقع في إطار السر المهني البنكي:

فالفقه الألماني اختار الأسلوب التعدادي[27] لتفصيل الوقائع والأشياء المشمولة بالسرية البنكية، فهذه الأخيرة تشمل الحسابات نفسها وتحركاتها وظروف هذه التحركات، وذلك بوضع لائحة مفصلة[28].

بينما عمد الفقه السويسري[29] إلى تبني أسلوب التفرقة الذي يقوم على معيارين أحدهما موضوعي والآخر شخصي.

فحسب المعيار الموضوعي، يكون كل فعل علمه البنك إبان تعامله مع الزبون مشمولا بالسرية، بشرط أن يكون ذلك مجهولا تماما من قبل الجمهور. فكل ما يعلمه البنك خارج نطاق نشاطه يكون خارج نطاق السرية.

أما حسب المعيار الشخصي، فإنه تؤخذ بعين الاعتبار إرادة الزبون التي تريد الإبقاء على سرية الأعمال المصرفية، مع الإشارة إلى أن إرادة الزبون والتزام البنك بالصمت هما مفترضان، فلا يستطيع البنك تمييز الأفعال والوقائع بحسب طبيعتها المالية أو المعنوية.

والحقيقة أن كل هذه الأساليب والمعايير المذكورة تكمل بعضها البعض، إذ من المتفق عليه أن السر المهني البنكي لا يطال سوى المعلومات الدقيقة والمرقمة، كمقدار رصيد الزبون دائنا كان أم مدينا، وحركة هذا الحساب، وصرف أو تسليم القيم المنقولة، إضافة إلى ما يقدمه الزبون من ضمانات شخصية أو عينية.

كما يمتد نطاق المسؤولية من حيث مضمون السر، إلى مشروع العمليات التي لم تنفذ والمفاوضات التي لم تسفر عن أية نتيجة. ولا يقتصر السر على ما يقوله الزبون فقط بل يمتد إلى كل ما يودعه أو يسحبه أو يجريه من تعامل مع البنك[30].

كما أن العادات والأعراف السائدة في العمل البنكي لا تخرج عن هذا الإطار، فهي تدخل في مضمون السر الواجب الالتزام به، كل العمليات البنكية والحسابات المتعلقة بالزبون، وعموما كل الأشياء المؤتمنة التي عرفت بهذه المناسبة.

 وتجدر الإشارة في هذا الصدد أن البنك بإمكانه منح معلومات من طبيعة عامة، يطلق عليها في العمل البنكي، les simple renseignements  كالقول بأن مقاولة ما أو شركة ما تابعة  لأحد زبناء المؤسسة البنكية.

كما يمكن أن يسأل البنك عن ملاءة زبون ما؛ مما يوجب على البنكي الإجابة بعبارات مقتضبة وعامة، كالقول مثلا بأن الأداء منتظم أو العكس. وفي هذا الصدد جاء قرار لاستئنافية باريس بتاريخ 6 فبراير 1975  أن إعطاء هذا النوع من المعلومات من طرف البنوك لا يعد خرقا لمضمون السر الواجب الالتزام به، فقط يجب على البنوك الالتزام بالموضوعية والتحفظ[31].

الفقرة الثانية: مضمون السر المهني البنكي في التشريعات المقارنة.

على عكس التشريع المغربي الذي اكتفى بإيراد نصوص وعبارات عامة لا تفيد في التحديد الدقيق لمضمون السر المهني البنكي الواجب على البنوك الالتزام به، كانت العديد من التشريعات المقارنة دقيقة في تحديد هذا المضمون.

فالمشرع المصري في المادة الأولى من القانون رقم 205 لسنة 1990 المتعلق بسرية الحسابات في البنوك، نص على أن " تكون جميع حسابات العملاء وودائعهم وأماناتهم وخزائنهم في البنوك، وكذلك المعاملات المتعلقة بها سرية ولا يجوز الاطلاع عليها أو إعطاء بيانات عنها بطريق مباشر أو غير مباشر…".

    يتضح من هذا النص أنه وسع من مضمون السر المهني البنكي ليشمل جميع حسابات الزبناء بالبنوك، سواء كانت هذه الحسابات خاصة بالأفراد أم بالشركات والجمعيات أو غيرها من الأشخاص المعنوية الخاصة أو العامة.

كما يشمل النص الحسابات سواء كانت عادية أم جارية، وقد حرصت المادة 377 من قانون التجارة المصري الجديد على أنه " إذا كان الحساب الجاري مفتوحا لدى بنك فلا يجوز للبنك إعطاء بيانات أو معلومات عن رقم الحساب أو حركته أو رصيده إلا لصاحب الحساب أو وكيله الخاص أو لورثته أو الموصى لهم بعد وفاته…".

ويشمل النص أيضا جميع أنواع الودائع، سواء كانت جارية أو لأجل وكل ما يسلم للبنك على سبيل الأمانة من أوراق مالية أو تجارية أو أية صكوك أخرى[32]. وعليه تشمل السرية جميع المعاملات المتعلقة بهذه الحسابات أو الودائع من سحب أو إضافة أو قفل، كما يستوي أن تكون هذه الحسابات بالعملة الوطنية أو الأجنبية، حيث لم يحدد النص نوع هذه العملة[33]. كما تجدر الإشارة إلى أن المشرع المصري استحدث في قانونه الخاص بسرية الحساب، نظام الحسابات والودائع الرقمية[34] إمعانا منه في الحفاظ على سرية حسابات الزبناء[35].

ويتضح  مما سبق أن المشرع المصري وضح مضمون السر المهني البنكي بشكل يرفع اللبس والغموض، ويبين حدود هذا الالتزام حتى يوفر الحماية اللازمة للزبناء، بالرغم من أنه وسع من هذا النطاق بشكل كبير.

كما أن المشرع اللبناني كان أكثر وضوحا في تحديد نطاق هذا السر وحدوده، فنص في المادة الثانية من قانون سرية المصارف اللبنانية لسنة 1956 على أن " مديري ومستخدمي المصارف المشار إليها في المادة الأولى، وكل من له حق الاطلاع بحكم صفته أو وظيفته بأية طريقة كانت على قيود الدفاتر والمعاملات والمراسلات المصرفية ملزمون بكتمان السر إطلاقا لمصلحة زبائن هذه المصارف ولا يجوز لهم إفشاء ما يعرفون عن أسماء الزبائن وأموالهم والأمور المتعلقة بهم لأي شخص …". كما تنص المادة الثالثة من نفس القانون على أنه " يحق للمصارف أن تفتح لزبنائها حسابات وودائع مرقمة لا يعرف أصحابها غير المدير القائم على إدارة المصرف أو وكيله، ولا تعلن هوية صاحب الحساب المرقم إلا بإذنه الخطي…" كما يحق لهذه المصارف أن تؤجر خزائن حديدية تحت أرقام بالشروط ذاتها.

وعليه فقد شملت السرية المصرفية في ظل هذا القانون جميع زبائن المصرف بشكل لم تنحصر معه السرية بأصحاب الودائع والحسابات الدائنة فقط، بل إنها شملت أيضا جميع المعاملات المصرفية من أي نوع كانت.

وفي هذا السياق قضت محكمة التمييز اللبنانية بأن نطاق السر المصرفي لا يتسع ليشمل حسابات وودائع المتعاملين مع المصرف أو أسمائهم فحسب، بل أيضا نوع هذا الحساب ووضعه، دائنا أم مدينا، ورصيده إيجابيا أم سلبيا، ومواعيد استحقاق الديون التي اقترضها من المصرف، ورقم مبلغ الاعتمادات المفتوحة له، وكافة المعلومات المتعلقة بالشيكات سواء المودعة في الحساب أم المسحوبة منه[36].

وفي سويسرا، تحظر المادة 47 من قانون البنوك وصناديق الادخار لسنة 1934 إفشاء أي معلومات سرية عن الزبناء تكون قد وصلت إلى علم البنك بمناسبة نشاطه، ما لم يكن هذا الإفشاء مسموحا به قانونا، بل إن نطاق السرية يمتد ليشمل جميع الوقائع والمعلومات التي تتصل بالنشاط البنكي حتى ولو لم تكن من أسرار المهنة البنكية.

لكن التشريعات الأنجلوأمريكية طبعت نطاق المسؤولية من حيث مضمون السر الواجب الالتزام به، بطابع خاص انعكس على طريقة صياغة تشريعاتها المتعلقة بالسر المهني البنكي والحق في الخصوصية، إذ أن هذه التشريعات لا تنظم العلاقة بين الزبون والبنك، أو أي واجب بالسرية مستحق على البنك لزبونه، وإنما تخص بالدرجة الأولى بعض مظاهر العلاقة بين الفرد والدولة بناء على التوازن بين الحق في الخصوصية،و المهام الرقابية للدولة، للسيطرة على الأنشطة غير المشروعة[37].

وعموما يختلف مضمون السر البنكي ونطاقه من تشريع لآخر، ويرتبط نطاق المعلومات والوقائع المشمولة بالسرية والمعلومات المسموح بإفشائها، بالغرض الذي يسعى كل تشريع إلى تحقيقه، والدور الذي يناط بالبنوك أن تؤديه، فبعض التشريعات تتولى تحديد المعلومات والوقائع التي يعتبر إفشاؤها غير قانوني، وفي البعض الآخر يتولى الفقه والقضاء تحديدها، وعند قيام حدود هذا السر، قد يوسع البعض منه وقد يضيقه البعض الآخر.

المطلب الثاني: مدة السر الواجب الالتزام به
إضافة إلى معرفة الوقائع والمعلومات التي تشكل مضمون السر الواجب الالتزام به من طرف البنك، يستمر هذا الالتزام في الزمان، ولا ينقضي بانقضاء علاقة الزبون بالبنك لأي سبب من الأسباب. وعليه سنبحث حالتين؛ حالة انتهاء العقد الرابط بين البنك والزبون، و الآثار التي يمكن أن تترتب عن إفشاء الأسرار في هذه الحالة(الفقرة الاولى)، وحالة وفاة الزبون والتزام البنك في مواجهة الورثة(الفقرة الثانية).

الفقرة الأولى: استمرار التزام البنك بالمحافظة على السر بعد انتهاء العقد.

يبقى البنك ملزما بكتمان السر المهني البنكي بعد انتهاء مدة العقد الرابط بينه وبين الزبون، لأن مصلحة هذا الأخير هي التي تحدد مدى هذا الالتزام، بالاستناد إلى مبدأ حسن النية[38]. فرغم انتهاء العمليات التي كانت تشكل موضوع العقد، يبقى الالتزام بكتمان الأسرار التي اطلع عليها البنك أثناء علاقته بالزبون قائما وينتج أثاره.

ويرى البعض [39] أن إفشاء الأسرار في هذه الحالة، يستتبع قيام المسؤولية التقصيرية التي تضاف إلى المسؤولية العقدية، ويكون للزبون المتضرر الخيار بين المسؤوليتين[40]، واستمرار هذا الالتزام يحقق حماية للزبون والتي يكون في أمس الحاجة إليها بعد انتهاء علاقته بالبنك[41].

وإذا كان المشرع المغربي لم يتحدث عن مدة هذا الالتزام سواء في القانون المتعلق بمؤسسات الائتمان والهيئات المعتبرة في حكمها، أم في الفصل 446 المحال عليه في القانون الجنائي، فإن المشرع المصري نص في المادة الأولى من قانون سرية الحسابات البنكية، في سياق الحديث عن البيانات المحظور إفشاء سريتها على  أنه "… يظل الحظر قائما حتى ولو انتهت العلاقة بين العميل والبنك لأي سبب من الأسباب ". كما أن الفقرة الثالثة من المادة 47 من قانون البنوك وصناديق الادخار السويسري تنص على أنه " يظل انتهاك السر المصرفي معاقبا عليه بعد انتهاء علاقة العمل ( الوظيفة ) العامة أو الخاصة أو ممارسة المهنة".

لكن نجد العكس في القوانين الأنجلوأمريكية حيث لا يمتد الالتزام بالمحافظة على السر البنكي إلى المعلومات الخاصة بالزبون، والتي تم الحصول عليها بعد انقطاع علاقته بالبنك. ففي قضية Tournier وهي السند والمرجع الرئيسي لأحكام السرية البنكية في القوانين الأنجلوأمريكية قضت المحكمة بعدم امتداد الالتزام بالسرية إلى المعلومات الخاصة بالزبون، والتي تمت معرفتها بعد انتهاء علاقته بالبنك[42].

الفقرة الثانية: استمرار محافظة البنك على السر بعد وفاة الزبون.

يستمر موجب حفظ السر من قبل البنك بعد وفاة الزبون، لأن العمليات المختلفة التي كان يجريها الزبون مع البنك قد تبقى مستمرة، وتتحول إلى ذمة الورثة، الذين يظل موجب حفظ السر ملزما للبنك لمصلحتهم أو لفائدتهم: فلكل وارث الحق شخصيا في الاستفادة من جميع المعلومات المتوفرة لدى البنك تطبيقا لمبدأ التضامن بين الورثة، ولأن شخصية الوارث هي متممة لشخصية المورث في هذه الحالة[43]. لكن عكس الورثة يمكن الاحتجاج بالسر المهني البنكي، في مواجهة الموصى لهم الخصوصيين أو الموهوب لهم، ما لم تكن الهبة تتضمن أموالا يحوزها البنك[44].

أما إذا منع الزبون البنك من إعطاء الورثة بعض المعلومات التي تعود إلى عمليات لها طابع شخصي جدا، فإن البنك عليه التقيد بهذا المنع. هذا ما يجري به العمل في سويسرا، خاصة عندما يتعلق الأمر بأمور شخصية معروفة من قبل البنك إبان قيام الزبون (الهالك) بنشاطه[45].



الفرع الثاني: حالات الإعفاء من المسؤولية وبعض الإشكالات التي تواجهها.

بدأت في الآونة الأخيرة تتسع حالات الإعفاء من هذه المسؤولية بسن عدة نصوص قانونية تعفي البنوك والمؤسسات المالية من التقيد بالسر المهني البنكي عندما يتعلق الأمر ببعض الحالات التي تمس المصلحة العامة، إذ يسمح للبنوك  بإفشاء هذا السر رغم كل ما يمكن أن ينتج عن هذا الإفشاء (المبحث الأول)، وتبقى الموجة الدولية التي يعرفها العالم لمكافحة عمليات غسل الأموال، زيادة على تطور الوسائل التكنولوجية الحديثة، أهم تحديات تواجه هذه المسؤولية (المبحث الثاني).

المبحث الأول: حالات الإعفاء من المسؤولية عن إفشاء السر المهني البنكي.

يتعين على البنك أن يكتم المعلومات التي توصف بالسرية فلا يبوح بها، إلا إذا أعفاه صاحب الحق في السر من هذا الالتزام. لكن توجد حالات معينة يتحرر فيها البنك من الالتزام بالسر المهني في كل مرة يلزمه فيها القانون  بالبوح، أو على الأقل يحميه فيها من نتائج هذا البوح، ويتم ذلك عندما تبرز المصلحة العليا التي تقدم على مصلحة البنك أو زبونه.
الشيء الذي يتضح معه، أنه توجد حالات الإعفاء من المسؤولية عن إفشاء السر المهني البنكي، إما بموجب القانون(المطلب الأول)،أو بموجب الاتفاق(المطلب الثاني).
المطلب الأول: حالات الإعفاء بموجب القانون.
بعدما أقر المشرع المغربي، أن الأصل هو الالتزام بكتمان السر المهني البنكي في المادة 79 من قانون 14 فبراير 2006 المتعلق بمؤسسات الائتمان والهيئات المعتبرة في حكمها، انتقل في المادة 80 من نفس القانون ليضع حدودا واستثناءات لهذا الالتزام. حيث نص على أنه:" زيادة على الحالات المنصوص عليها في القانون، لا يجوز الاحتجاج بالسر المهني على بنك المغرب والسلطة القضائية العاملة في إطار مسطرة جنائية[46].

ويلاحظ على هذا النص، أن المشرع المغربي وضع عبارات عامة وغير دقيقة جمع فيها عدة حالات[47] الشيء الذي يحتم علينا البحث عن هذه الحالات في باقي فروع القانون الأخرى، وخاصة القانون الضريبي الذي تضمن نصوصا صريحة تمنح حق الاطلاع والمراقبة، وتبادل المعلومات لفائدة إدارة الضرائب لكي تتمكن من الحصول على جميع المعلومات التي من شأنها أن تفيدها في ربط ومراقبة الضرائب دون إمكانية الاعتراض على ذلك بحجة كتمان السر المهني.

وعليه، سنتناول في ثلاث فقرات، السر المهني البنكي في مواجهة إدارة الضرائب[48] وبنك المغرب، والسلطة القضائية العاملة في إطار مسطرة جنائية.

الفقرة الأولى: السر المهني البنكي في مواجهة إدارة الضرائب.

 تنص المادة 214 من المدونة العامة للضرائب الصادرة في القانون المالي لسنة2007[49]على حق الاطلاع وتبادل المعلومات، الذي بموجبه يجوز لإدارة الضرائب – كي تتمكن من الحصول على جميع المعلومات التي من شأنها أن تفيدها في ربط ومراقبة الضرائب والواجبات والرسوم المستحقة على الغير- أن تطلب الاطلاع على الوثائق المحاسبية ومطابقتها للواقع والمستندات المصرح بها من قبل الملزمين بالضريبة، دون إمكانية الاعتراض على ذلك بحجة كتمان السر المهني.

ويعرف أحد الباحثين حق الاطلاع المخول للإدارات الضريبية على الخصوص، بأنه سلطة منحها لها المشرع بغية التحقق من إعمال أحكام التشريعات الضريبية[50].

فالغاية منه هي تمكين تلك الإدارة من التعرف على وعاء الضريبة وعناصره المختلفة، ابتغاء تحقيق العدالة الضريبية، ومحاربة التهرب الضريبي[51].

هذه الاعتبارات تسمو على الاعتبار الذي يقوم عليه السر المهني البنكي الذي تسيطر عليه المصلحة الخاصة والحق في الخصوصية. وعليه فلا يمكن التذرع وراء هذه الاعتبارات الفردية لإخفاء تهرب ضريبي أو أعمال غير مشروعة من شأنها أن تسبب الاغتناء غير المشروع على حساب المصلحة العامة.

ويمكن لإدارة الضرائب أيضا، أن تطلب الاطلاع على السجلات والوثائق التي توجب مسكها القوانين الجاري بها العمل فيما يتعلق بالأشخاص الطبيعيين أو المعنويين الذين يزاولون نشاطا خاضعا للضريبة. وفي جميع الحالات لا يمكن أن يشمل الاطلاع مجموع الملف إذا تعلق الأمر بمهنة حرة تستلزم مزاولتها الحفاظ على السر المهني، وتقديم خدمات ذات طابع قانوني أو ضريبي أو محاسبي[52].

وتقدم المعلومات كتابة، كما يتم تسليم الوثائق مقابل وصل على شكل وثيقة مسلمة لمأموري إدارة الضرائب[53]، وعليه فلا يمكن للأشخاص الخاضعين للضريبة الامتناع عن تقديم الوثائق المطالب بها من طرف الإدارة، فإذا تم الامتناع أو تمت مخالفة إجراءات حق الاطلاع بصفة عامة، فإن القانون يعاقب المخالف وفقا للإجراءات وبالغرامة التهديدية اليومية[54].

وتبعا لذلك فإنه يحق لموظفي إدارة الضرائب المحددين حصرا، الاطلاع على سجلات البنوك تحققا من صحة استيفاء الضريبة. وإذا ما تولد لديهم شك حول صحة هذه السجلات، فإن حق الاطلاع الممنوح لهم يمكنهم من الرجوع إلى كافة دفاتر ومستندات البنوك التي قد تمكن من كشف المخالفات الضريبية.

 وهذا الحق يمكن أن يمارس في المقر الرئيسي للبنك، أو في مراكز الوكالات والفروع، على أن يتم الاطلاع على الوثائق المطلوبة من عقود، ومحررات وملفات وكشوفات حسابية محفوظة في أماكن وجودها[55]، دون أن يحق لأعوان إدارة الضرائب نقلها إلى أماكن أخرى، غير أنه يحق لهم أن ينسخوا ما يرونه ضروريا في أدائهم لمهامهم، أو أن يأخذوا عنها الخلاصات الضرورية[56].

لكن من الناحية الواقعية، فإنه قلما تمارس إدارة الضرائب حق الاطلاع في الأبناك، إلا في حالات ناذرة، عندما يقع شك في إقرار أحد الملزمين. وهنا تمارسه بكثير من الحرص والتحفظ لأن موظفي إدارة الضرائب هم أنفسهم مقيدون بالسر المهني[57].

وهذا الحق يمارس بكيفية دقيقة في بعض التشريعات المقارنة؛ فمثلا في الولايات المتحدة الأمريكية وجد هذا الحق لتفصح البنوك على المعلومات الخاصة بزبنائها والتي تسهل حصول إدارة الضرائب على المعلومات التي تراها ضرورية للسيطرة على حالات التهرب الضريبي وتسهيل إعمال القانون الجبائي وتنفيذه.

   وعليه، يلتزم البنك بتقديم التقارير إلى إدارة الدخل الداخلي حول المعاملات النقدية أو التحويلات الداخلية الكبيرة المتضمنة لأي إيداع أو سحب أو تحويل نقدي أجنبي أو أي دفع أو تحويل خارجي، دون الالتزام بأي مبرر يقتضيه السر المهني البنكي[58].

فالبنك حسب هذا القانون هو أداة لمحاربة التهرب الضريبي وغسيل الأموال والتحويلات المالية الضخمة التي قد تكون نابعة من الاتجار في المخدرات أو الأسلحة.

ويمكن حق الاطلاع-حسب بعض الباحثين- إدارة الضرائب من مراقبة الإقرارات المدلى بها من قبل الملزم، واستعمال الصلاحيات المخولة لها بمقتضى هذا الحق، لتنتهي إلى التأكد من صحة هذه الإقرارات، أو وضع أساس ضريبي متين بناءا على السجلات المتوفرة لدى البنوك دون مواجهتها بالسر المهني البنكي[59].

كما يتمتع مأموري إدارة الضرائب في ظل الممارسة الفرنسية[60] بحق واسع جدا للاستعلام، وممارسة حق الاطلاع في البنوك، ولا يجوز الاحتجاج بالسر المهني البنكي في مواجهتهم.

وإذا كان هذا الحق له جدوى في التشريعات التي تنهج نظام السرية النسبية، فإنه غير معترف به في التشريعات التي تنهج نظام السرية المطلقة، خصوصا التشريع السويسري، واللبناني، والمصري.

ففي سويسرا، لا تلتزم البنوك بإعطاء أية معلومات أو السماح بممارسة حق الاطلاع من قبل السلطات الضريبية، لا في مرحلة فرض الضريبة ولا في مرحلة الجباية، وذلك لأن قوانين السرية البنكية تقر التزام البنوك بعدم الإفشاء في هذه الحالات. ولكن قد تطلب السلطات المختصة بالضرائب من الملزم أن يقدم لها إقرارا من البنك الذي يتعامل معه، عن أمواله الموجودة لديه[61].

وفي لبنان لا يسمح قانون سرية المصارف بإفشاء أي شيء، إلا للسلطات القضائية في دعاوى الإثراء غير المشروع طبقا لما تنص عليه المادة 7 من نفس القانون.

أما المشرع المصري، فكان يسمح بحق الاطلاع في قانونه السابق، لكن مع صدور القانون الجديد رقم 205 لسنة 1990 المتعلق بسرية الحسابات بالبنوك، منع هذا الحق بشكل قاطع، وأعطى للحسابات سريتها وحفظ حرية الشخص وحقه في حماية    حساباته، حيث نص في الفقرة الثانية من المادة الأولى من هذا القانون في إطار حديثه عن الأشخاص الممنوع عليهم الاطلاع على حسابات العملاء، على أنه:" يسري الحظر المنصوص عليه في الفقرة السابقة على جميع الأشخاص والجهات بما في ذلك الجهات التي يخولها القانون سلطة الاطلاع أو الحصول على الأوراق أو البيانات المحظور إفشاء سريتها طبقا لأحكام هذا القانون، ويظل هذا الحظر قائما حتى ولو انتهت العلاقة بين العميل والبنك لأي سبب من الأسباب".

فهذا النص -حسب الأستاذة سميحة القليوبي- جاء بعبارات قاطعة بالنسبة لمن شملهم حظر الاطلاع على الحسابات، حيث منع هذا الحظر جميع الأشخاص والجهات دون تحديد، ولما كان العام يؤخذ على إطلاقه فقد كانت هذه العبارات القاطعة كافية لمنع أي شخص أيا كانت صفته أو طبيعته عاما أو خاصا، أو أية جهة كان مصرحا لها أم لا. ولكن المشرع المصري إمعانا منه في الوضوح قرر أن هذا الحظر يشمل جميع الجهات والهيئات والأشخاص حتى تلك التي كانت لها سلطة الاطلاع أو الحصول على الأوراق أو البيانات كمصلحة الضرائب والنيابة العامة ووحدات الحكم المحلي وإدارات الكسب غير المشروع إلى غير ذلك من الجهات والأشخاص التي كانت القوانين الخاصة تجيز لهم حق الاطلاع[62].

الفقرة الثانية: السر المهني البنكي في مواجهة بنك المغرب.

يعتبر بنك المغرب الجهاز المكلف بمراقبة مؤسسات الائتمان والهيئات المعتبرة في حكمها، إذ أعطى له القانون البنكي مجموعة من الصلاحيات لمراقبتها وزوده بحصانة قانونية تغنيه عما يمكن أن تتذرع  به هذه المؤسسات لعرقلة عمله. حيث نص المشرع على أنه:" زيادة على الحالات المنصوص عليها في القانون، لا يجوز الاحتجاج بالسر المهني على بنك المغرب …"[63].

يستنتج من هذه المادة أن المشرع جعل بنك المغرب من بين الجهات التي لا يمكن للأبناك الاحتجاج بالسر المهني في مواجهتها، نظرا لما يتمتع به من سلطات رقابية على مؤسسات الائتمان، وباعتباره كذلك الجهة الوصية على هذه المؤسسات.

ولتقوية الدور الرقابي لبنك المغرب على مؤسسات الائتمان، خصص المشرع الباب الرابع من القانون المتعلق بمؤسسات الائتمان والهيئات المعتبرة في حكمها، لمراقبة مؤسسات الائتمان. حيث نص على أنه": يعهد إلى بنك المغرب بمراقبة تقيد مؤسسات الائتمان بأحكام هذا القانون والنصوص المتخذة لتطبيقه.

ويتأكد من ملاءمة التنظيم الإداري والمحاسبي ونظام المراقبة الداخلية للمؤسسات المذكورة ويسهر على جودة وضعيتها المالية.

وفي هذا الإطار يؤهل بنك المغرب لإجراء مراقبة في عين المكان ومراقبة على وثائق المؤسسات المشار إليها أعلاه بواسطة مأموريه أو أي شخص آخر ينتدبه الوالي لهذا الغرض…"[64].

وما يستفاد من هذه المادة هو أن المشرع مكن بنك المغرب من سلطات واسعة للاطلاع والحصول على كل المعلومات التي تبين الصورة الحقيقية لمؤسسات  الائتمان وذلك بمراقبة الوثائق المحاسبية والقوائم التركيبية، بواسطة مفتشين مفوضين لذلك، والذين لا يتحملون أية مسؤولية مدنية شخصية بسبب مزاولة مهامهم، كما يلتزمون بكتمان السر المهني حسب المادة 79.

وعليه فإذا كان السر المهني البنكي يقوم على اعتبار حماية سرية حسابات الزبناء باعتبارهم دائنين في الالتزام بعدم إفشاء أسرارهم، فإن هذا الاعتبار يصبح مرنا في مواجهة بنك المغرب، باعتباره مكلفا بحماية القطاع البنكي من كل ما يمكن أن يمسه من تلاعبات واختلالات بالنظر لحساسية وحيوية الأنشطة البنكية.

 وهذه الفلسفة تنطوي على حماية الزبناء أنفسهم، لأن حماية القطاع البنكي، فيه حماية لزبناء الأبناك وزيادة الثقة في الائتمان بالاعتماد على معايير الحيطة والحذر[65].

ويمكن لبنك المغرب أن يطلب من الهيئات الخاضعة لمراقبته موافاته بجميع الوثائق والمعلومات اللازمة للقيام بمهمته، والتي يتولى هو نفسه (بنك المغرب) تحديد قائمتها ونموذجها وآجال إرسالها[66].

كما لا يمكن للأبناك أن تحتج بالسر المهني في مواجهة عدة جهات أخرى لها أدوار متعددة في رقابتها، كمراقبي الحسابات الذين توسع مجال تدخلاتهم في القانون الجديد، إذ ألقى عليهم هذا القانون عبء كبيرا، حيث أصبحوا مكلفين بإعداد التقارير التي تبين نتائج قيامهم بمهمتهم المتمثلة في التحقق من صدق المعلومات المقدمة من البنوك إلى الزبناء ومن مطابقتها للحسابات، وعليهم تبليغ هذه التقارير إلى بنك المغرب وإلى أعضاء مجلس الإدارة أو الرقابة لمؤسسة الائتمان المعنية وفق كيفيات يحددها بنك المغرب[67].

ونظرا للدور المهم الذي أصبح يحتله مراقب الحسابات في القانون الجديد، خصص له المشرع المواد من 70 إلى 78، وجعل دوره إلى جانب بنك المغرب في الرقابة كما جعله من بين الجهات التي لا يمكن مواجهتها بالسر المهني، وزيادة في الحرص على توازن المصالح أخضع المشرع المعلومات والوثائق المتبادلة بين بنك المغرب ومراقبي الحسابات لقاعدة كتمان السر المهني، وأعفى مراقب الحسابات من تحمل أية مسؤولية بسبب تبليغ المعلومات إلى بنك المغرب[68].

إضافة إلى هذه الجهات هناك جهات أخرى لا يمكن للبنوك الاحتجاج في مواجهتها بالسر المهني، بل أعفاها المشرع بنص القانون من المسؤولية في حالة الاطلاع على حسابات الزبناء، ما دام الداعي إلى هذا الاطلاع هو هاجس رقابي، وهي على التوالي:

–                     لجنة التنسيق بين أجهزة الرقابة على القطاع المالي.

–                     المجلس الوطني للائتمان والادخار.

–                     لجنة مؤسسات الائتمان.

–                     اللجنة التأديبية لمؤسسات الائتمان[69].

ما يمكن استنتاجه من القانون المتعلق بمؤسسات الائتمان والهيئات المعتبرة في حكمها الجديد، هو أنه عزز إلى حد كبير من صلاحيات واستقلالية بنك المغرب في مجال الإشراف والمراقبة، حيث فوض له منح رخصة الممارسة- التي كانت بيد وزير المالية في القانون القديم- وكذا سن النظام المحاسبي والقواعد الاحتراسية، بالإضافة إلى تدبير المشاكل التي قد تواجه مؤسسات الائتمان، كما تم وضع قاعدة للتشاور وتبادل الرأي بين بنك المغرب ومراقبي الحسابات الذين توسع ميدان تدخلاتهم.

   ومن أجل تعزيز ميدان رقابة المجموعات البنكية، تم تعيين لجنة تنسيق تضم جميع هيئات المراقبة بالقطاع المالي[70].

فهذه الصلاحيات الجديدة، عززها المشرع بوضع آليات قانونية تمكن الجهات الرقابية من القيام بدورها على أحسن وجه، دون عرقلته بدواعي فردية تتمثل في السر المهني البنكي، ما دام الهم الوحيد لهذه الجهات هو حماية القطاع البنكي من كل الشوائب.

الفقرة الثالثة: السر المهني البنكي في مواجهة السلطة القضائية العاملة في إطار مسطرة جنائية.

تعتبر الجهات القضائية العاملة في إطار مسطرة جنائية، من بين الجهات التي لا يمكن للأبناك مواجهتها بالسر المهني البنكي، طبقا للمادة 80 من القانون المتعلق بمؤسسات الائتمان والهيئات المعتبرة في حكمها، عندما يتعلق الأمر بمسطرة جنائية تتطلب الكشف عن تفاصيل العمليات البنكية الخاصة بزبون ما. نذكر كمثال على ذلك جريمة إصدار الشيك بدون رصيد، إذ في هذه الحالة يتم الاستعانة بشهادة البنك في عدم الأداء لإقامة أركان الجريمة.

كما أن ضرورة البحث عن الحقيقة في جريمة ما، أعطت لقاضي التحقيق القيام بجميع إجراءات التحقيق التي يراها صالحة للكشف عن الحقيقة[71]. وإذا تعذر عليه القيام شخصيا ببعض إجراءات التحقيق، جاز له بصفة استثنائية أن يكلف عن طريق إنابة قضائية ضابطا للشرطة القضائية لتنفيذ هذه الإجراءات ضمن الشروط المحددة مع مراعاة التحفظات المنصوص عليها في القانون[72].

وعليه، يكون لقاضي التحقيق الحق في ممارسة التفتيش لدى مؤسسات البنوك، وحجز كل وثيقة أو سند تكون له فائدة في الجريمة موضوع البحث، ولا يمكن للبنك التذرع في مواجهته بالسر المهني البنكي.

وفي هذا الاتجاه تسير أغلب تشريعات الدول الحديثة التي تنهج نظام السرية النسبية، حيث تغلب المصلحة العامة في الوصول إلى الحقيقة، فلا يجوز للشخص أن يحتمي وراء السر المهني البنكي للهروب من هذا الدور المساعد للعدالة الجنائية.

ففي القانون الفرنسي لا يسمح للبنكي بأن يمتنع عن أداء الشهادة بمناسبة دعوى جنائية، بزعم أنه لا يستطيع الكشف عن تفاصيل العمليات البنكية الخاصة بزبنائه، أيا كانت المصلحة التي يعلقها هؤلاء على صيانة أسرارهم حتى لا يعوق ذلك عمل السلطات القضائية[73].

كما أن القانون البلجيكي، يتجه إلى إخضاع البنوك للطلبات الصادرة عن قضاة التحقيق، ووكلاء النيابة، والمحققين العسكريين، وكذا أعضاء الشرطة القضائية العاملة في إطار إجراءات جنائية[74].

أما في حالة نشوء دعوى بين البنك وزبونه تتعلق بمعاملة بنكية، فإن البنك يعفى من الالتزام بالسر المهني في هذه الحالة، بشرط ألا يتناول الإعفاء سوى العملية التي تكون محل النزاع، والعمليات التي تتلازم معها دون العمليات الأخرى، ولا يجوز إفشاء السر إلا أمام المحكمة أو الهيئة التحكيمية المعروض عليها النزاع[75].

ويمكن في ظل هذه الحالة أن تأمر المحكمة أثناء الدعوى إما تلقائيا أو بناء على طلب أحد الأطراف بتقديم الوثائق المحاسبية أو بالاطلاع عليها، باعتبار البنك تاجرا ويخضع للالتزامات المحاسبية الواجب على التجار التقيد بها[76]. وعليه فإن البنك يلتزم بتقديم الكشوفات الحسابية لإثبات حقه في هذا النزاع.

والاستثناء على السر المهني البنكي في هذه الحالة، وضع تأمينا لممارسة حقوق وحرية الدفاع، إذ لولاه لما تمكن البنك من إثبات حقوقه ولأصبح السر البنكي حاجزا يقف في وجه تحقيق العدالة[77]. أما إذا لم يكن البنك طرفا في النزاع، تجاريا كان أم مدنيا فإنه حسب البعض[78]، لا يجوز له أن يدلي بأسرار زبونه أمام المحكمة، إلا إذا أذن له الزبون بذلك.

أما بالنسبة للتشريعات التي تنهج نظام السرية المطلقة حيث تقوم على مبدأ الاحترام المطلق لواجب السر المهني البنكي من طرف البنوك؛ ففي هذا الاتجاه يذهب المشرع اللبناني في المادة 2 من قانون سرية الحسابات البنكية، حيث يوجب على البنك حفظ السر تجاه السلطة القضائية، وأن يرفض الأدلاء بشهادته سواء أمام القضاء الجنائي أم القضاء المدني، كما أن الأحكام القانونية المطبقة على رفض الشهادة لا تطبق على البنك في هذه الحالة[79].

ولا يستثنى من هذا المبدأ إلا حالة نشوء دعوى تتعلق بمعاملة مصرفية بين المصرف وأحد زبنائه، أو حالة الطلبات التي توجهها السلطات القضائية ويكون موضوعها دعاوى الإثراء غير المشروع[80].

وفي هذا السياق أيضا يسير المشرع السويسري، حيث يمنع قانون البنوك وصناديق الادخار  في المادة 47 على البنوك إفشاء السر تحت طائلة العقاب الجنائي، وبذلك يمنع على البنوك في حالة استجوابها سواء بصفة متهم أم شاهد أن تدلي بمعلومات خاضعة للسر المهني البنكي أمام القضاء.

    يستخلص مما سبق أن المشرع في كل هذه الحالات، رجح كفة المصلحة العامة على واجب الالتزام بالسر المهني البنكي، وبذلك أعفى البنوك من المسؤولية بناء على نصوص قانونية عن إفشاء أسرار زبنائها، الشيء الذي نفى عن فعل الإفشاء صفة الخطأ المعاقب عليه، استثناء على مبدأ الالتزام بالسر المهني البنكي.

وإذا كان هذا الإعفاء من المسؤولية ممكنا بموجب نصوص قانونية، فإنه ممكن كذلك بموجب الاتفاق.

المطلب الثاني: حالات الإعفاء بموجب الاتفاق

إذا كانت الغاية المرجوة من الالتزام بالسر المهني البنكي هي حماية حقوق الزبون فإن هذا الأخير من حقه أن يتنازل عن هذه الحماية إذا قدر أن ذلك في مصلحته(الفقرة الأولى)، كما يمكن ممارسة هذا الحق من قبل مجموعة من الأشخاص يقومون مقام الزبون في إدارة شؤونه(الفقرة الثانية).







الفقرة الأولى: رضا الزبون بإفشاء أسراره.

 الأصل في إفشاء أسرار الزبون، أنه خطأ يستوجب التعويض إذا لحق هذا الأخير ضرر، لكن رضاه بوقوع هذا الضرر ينفي عن الفعل صفة الخطأ ويجعله مشروعا[81].

ومن أبرز الصور العملية التي تؤكد هذا الرضا، أن يطلب الزبون التاجر من البنك إعطاء تفاصيل عن حسابه ومعاملاته مع البنك إلى المحاسب الذي يقوم بإعداد الميزانية السنوية له، أو أن تطلب شركة المساهمة في شخص ممثلها القانوني من البنك تقديم المعلومات التي يطلبها مراقبو حساباتها[82].

ففي هذه الأمثلة يتضح أن رضاء الزبون بإفشاء البنك لأسراره، يترتب عليه إعفاء المؤسسة البنكية من المسؤولية.

لكن هذا الإعفاء من المسؤولية بموجب رضا الزبون بإفشاء أسراره، يعرف أوجه مع الاتجاه الذي يتخذ نظرية العقد كأساس للالتزام بالسر المهني البنكي[83]، فهذا الاتجاه يذهب إلى القول بإمكانية رفع صفة السر المهني البنكي بإرادة الأطراف ما دام هذا السر قد أنشئ بموجب هذه الإرادة، بيد أنه يشترط وقوع الرضا من الطرفين حتى يمكن إضفاء صفة الشرعية عن فعل الإفشاء. أما إذا تم الإفشاء بمبادرة من البنك وحده فإنه لا يعفى من هذا الالتزام ، وبالتالي يقع تحت طائلة العقوبة[84].

ويذهب البعض[85] إلى أن رضا الزبون بإفشاء أسراره، قد يكون صريحا وقد يكون ضمنيا ولكنه لا يفترض. وعليه فإذا كتب الزبون على مراسلاته أسماء البنوك التي يتعامل معها، فإن ذلك لا يجب أن يؤخذ على أنه رضا ضمنيا منه بأن يعطي البنك شيئا من أسراره. ولا يلزم أن يكون رضا الزبون كتابة، بل يكفي أن يكون شفويا، ويتحمل البنك عبء إثبات الرضا لكي ينفي به خطأه، لذلك يستحسن ألا يكتفي البنك بالرضا الشفوي من الزبون، بل يجب أن يحصل على هذا الرضا كتابة، وهذا ما كرسته بعض التشريعات في قوانينها المتعلقة بالسرية البنكية، حيث اشترطت الإذن الكتابي من الزبون ليتم رفع السر.

فقد نص المشرع اللبناني على عدم جواز إفشاء ما يعرفه مستخدمو البنك عن أسماء الزبائن وأموالهم والأمور المتعلقة بهم لأي شخص فردا كان أو سلطة عامة إدارية أو عسكرية أو قضائية:" إلا إذا أذن لهم بذلك خطيا صاحب الشأن أو ورثته أو الموصى لهم، أو إذا أعلن إفلاسه، أو إذا نشأت دعوى تتعلق بمعاملة مصرفية بين المصارف وزبنائها"[86]. كما أجاز المشرع اللبناني أيضا، أن يكون الاتفاق على إعطاء الإذن مسبقا، وفي هذه الحالة لا يجوز الرجوع عن هذا الإذن إلا بموافقة جميع المتعاقدين[87].

ونفس هذا المسلك سار عليه المشرع السوري في قانونه الخاص بالسرية المصرفية  حيث نص على أنه:" لا تعلن هوية صاحب الحساب المرقم، أو الخزانة الحديدية وقيمة حساباته أو موجوداته إلا بإذن خطي من المودع أو من ورثته…"[88]. كما يجوز الاتفاق مسبقا كتابة، أمام إدارة المصرف على إعطاء الإذن برفع السرية البنكية في ظل هذا القانون، ولا يجوز الرجوع عن هذا الإذن إلا بموافقة كل الأط